Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 25, Ayat: 10-16)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : جنات : بدل من خيراً ، و يجعل ، من جزمه عطفه على محل جواب الشرط ، ومن رفعه فعلى الاستئناف ، أي : وهو يجعل لك قصوراً ، ويجوز عطفه على الجواب لأن الشرط إذا كان ماضياً جاز في الجواب الرفع والجزم ، كما هو مقرر في محله . يقول الحق جل جلاله : { تبارك } أي : تكاثر وتزايد خيره { الذي إن شاء جَعَلَ لك } في الدنيا { خيراً } لك { من ذلك } الذي اقترحوه من أن يكون لك جنة تأكل منها بأن يجعل لك مثل ما وعدك في الجنة ، { جناتٍ تجري من تحتها الأنهارُ } ، فإنه خير من جنة واحدة من غير أنهار ، كما اقترحوا ، { ويجعل لك قصوراً } وغرفاً في الدنيا ، كقصور الآخرة ، لكن لم يشأ ذلك لأن الدنيا لا تسع ما يعطيه لخواص أحبابه في الآخرة لأنها ضيقة الزمان والمكان . وعدم التعرض لجواب الاقتراحين الأولين ، وهو إنزال الملك وإلقاء الكنز لظهور بطلانهما ومنافاتهما للحكمة التشريعية ، وإنما الذي له وجه في الجملة وهو الاقتراح الأخير فإنه غير مناف للحكمة بالكلية ، فإن بعض الأنبياء - عليهم السلام - قد أُتوا مع النبوة مُلكاً عظيماً ، لكنه نادر . ثم أضرب عن توبيخهم بحكاية جناياتهم السابقة ، وانتقل إلى توبيخهم بحكاية جناية أخرى ، فقال : { بل كذَّبوا بالساعة } أي : بل أتوا بأعجب من ذلك كله ، وهو تكذيبهم بالساعة . ويحتمل أن يكون متصلاً بما قبله ، كأنه قال : بل كذبوا بالساعة ، وكيف يلتفتون إلى هذا الجواب ، وكيف يصدقون بتعجيل مثل ما وعدك في الآخرة ، وهم لا يؤمنون بها ؟ ثم تخلص إلى وبال من كذَّب بها فقال : { وأعتدنا لمن كَذَّبَ بالساعة سعيراً } أي : وهيأنا للمكذبين بها ناراً شديدة الإسعار ، أي : الاشتعال . ووضع الموصول موضع ضمير " هم " ، أو لكل من كذب بها كائناً من كان ، ويدخلون هم في زمرتهم دخولاً أولياً . ووضع الساعة موضع ضميرها للمبالغة في التشنيع . { إذا رَأَتْهُم } أي : النار ، أي : قابلتهم { من مكان بعيد } بأن كانت منهم بمرأى للناظرين في البُعد ، كقوله صلى الله عليه وسلم في شأن المؤمن والكافر : " لا تترآءى نَاراهُما " ، أي : لا يتقاربان بحيث تكون إحداهما بمرأى من الأخرى . { سمعوا لها تغيُّظاً وزفيراً } أي : سمعوا صوت غليانها . شُبه ذلك بصوت المتغيظ والزفير ، وهو صوت من جوفه . ولا يبعد أن يخلق الله فيها الإدراك فتتغيظ وتزفر . وقيل : إن ذلك من زبانيتها ، نُسب إليها ، وهو بعيد . { وإذا أُلْقُوا منها } من النار { مكاناً ضَيِّقاً } أي : في مكان ضيق لأن الكرب يعظم مع الضيق ، كما أن الروح يعظم مع السعة ، وهو السر في وصف الجنة بأن عرضها السموات والأرض . وعن ابن عباس وابن عمر - رضي الله عنهما - : تضيق جهنم عليهم ، كما يضيق الزجُّ على الرمح . وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : " والذي نفسي بيده إنهم ليُستكرهون في النار كما يُستكره الوتد في الحائط " حال كونهم { مُقرّنين } أي : مسلسلين ، أي : مقرونين في السلاسل ، قُرنت أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال . أو : يقرن مع كل كافر شيطانه في سلسة ، وفي أرجلهم الأصفاد . فإذا أُلقوا في الضيق ، على هذا الوصف ، { دَعَوا هنالك } أي : في ذلك المكان الهائل والحالة الفظيعة ، { ثُبُوراً } أي : هلاكاً ، بأن يقولوا : واثبوراه هذا حينُك فتعال ، فيتمنون الهلاك ليستريحوا ، فيقال لهم : { لا تدعوا اليوم ثُبوراً واحداً وادعوا ثُبوراً كثيراً } أي : لا تدعوا بالهلاك على أنفسكم مرة واحدة ، ودعاءً واحداً ، بل ادعوا دعاء متعدداً بأدعية كثيرة ، فإن ما أنتم عليه من العذاب لغاية شدته وطول مدته ، مستوجب لتكرر الدعاء في كل أوان . وهو يدل على فظاعة العذاب وهوله . وأما ما قيل من أن المعنى : إنكم وقعتم فيما ليس ثبوركم فيه واحداً ، وإنما هو ثبور كثير ، إما لأن العذاب أنواع وألوان ، كل نوع منها ثبور لشدته وفظاعته ، أو : لأنهم كلما نضجت جلودهم بُدلوا غيرها ، فلا غاية لها ، فلا يلائم المقام . انظر أبا السعود . وعن أنس رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " أولُ من يُكْسَى حُلَّةً من النار إبليسُ ، فيضعُها على حاجبيه ، ويسحبُها من خلفه ، وذُريتُهُ من بعده ، وهو يقول : يا ثُبُوراه ، وهم يجاوبونه : يا ثُبُورهم ، حتى يَقِفُوا على النار ، فيقال لهم : لا تدعوا ثبوراً واحداً … " . { قل } لهم يا محمد تقريعاً لهم وتهكماً بهم ، وتحسراً على ما فاتهم : { أذلك خيرٌ } ، والإشارة إلى السعير ، باعتبار اتصافها بما فُصِّل من الأحوال الهائلة ، وما فيه من معنى البُعد لكونها في الغاية القاصية من الهول والفظاعة . أي : قل لهم أذلك الذي ذكر من السعير ، التي أعدت لمن كذب بالساعة ، وشأنها كيت وكيت خير { أم جنةُ الخُلد التي وُعِدَ المتقون } أي : وعدها الله المتقين ؟ وإنما قال : " أذلك خير " ، ولا خير في النار تهكماً بهم . كما تقدم ، وإضافة الجنة إلى الخلد للمدح ، وقيل : للتميز عن جنات الدنيا . والمراد بالمتقين : المتصفون بمطلق التقوى ، لا بغايتها . { كانت } تلك الجنة { لهم } في علم الله تعالى ، أو في اللوح ، { جزاءً } على أعمالهم ، { ومصيراً } يصيرون إليه بعد الموت . { لهم فيها ما يشاؤون } من فنون الملاذ والمشتهيات ، وأنواع النعيم والخيرات ، كقوله تعالى : { وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ ٱلأَنْفُسُ وَتَلَذُّ ٱلأَعْيُنُ } [ الزخرف : 71 ] ، ولعل كل فريق منهم يقنع بما أتيح له من درجات النعيم ، ولا تمتد أعناق همهم إلى ما فوق ذلك من المراتب العالية . فلا يلزم الحرمان ، ولا تساوى أهل الجنان . حال كونهم { خالدين } لا يفنون ، ولا يفنى ما هم فيه ، { كان على ربك وعداً مسؤولاً } أي : موعوداً حقيقياً بأن يُسْأَلَ ويُطلب لكونه مما يتنافس فيه المتنافسون ، أو : مسؤولاً لا يسأله الناس في دعائهم ، بقولهم : { رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ } [ آل عمرآن : 194 ] أو : تسأله الملائكة بقولهم : { رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ ٱلَّتِي وَعَدْتَّهُمْ } [ غافر : 8 ] وما في " على " من معنى الوجوب ، لامتناع الخُلْفِ في عده تعالى ، فكأنه أوجبه على نفسه تفضيلاً وإحساناً . وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من تشريفه والإشعار بأنه صلى الله عليه وسلم هو أول الفائزين بمغانم هذا الوعد الكريم ما لا يخفى . قاله أبو السعود . الإشارة : تبارك الذي إن شاء جعل ذلك خيراً من ذلك ، وهي جنة المعارف المعجلة ، تجري من تحتها أنهار العلوم وفيض المواهب ، ويجعل لك قصوراً تنزل فيها ، ثم ترحل عنها ، وهي منازل السائرين ومقامات المقربين ، إلى أن تسكن في محل الشهود والعيان ، وهو العكوف في حضرة الإحسان . بل كذَّبوا بالساعة ، أي : من تنكب عن هذا الخير الجسيم ، إنما سببه أنه فعل فِعْل من يُكذب بالساعة من الانهماك في الدنيا ، والاشتغال بها عن زاد الآخرة . وأَعتدنا لمن فعل ذلك سعيراً ، أي : إحراقاً للقلب بالتعب ، والحرص ، والجزع والهلع ، والإقبال على الدنيا ، إذا قابلتهم من مكان بعيد سمعوا لها تَغَيُّظاً وزفيراً غيظاً على طلابها ، حيث آثروها على ما فيه رضا مولاها ، وإذا ألقوا في أشغالها ، وضاق عليهم الزمان في إداركها ، دعَوا بالويل والثبور ، وذلك عند معاينة أعلام الموت ، والرحيل إلى القبور ، ولا ينفعهم ذلك . قل : أذلك خير أم جنة الخلد ؟ وهي جنة المعارف التي وُعد المتقون لكل ما سوى الله كانت لهم جزاء على مجاهدتهم وصَبْرهم ، ومصيراً يصيرون إليها بأرواحهم وأسرارهم . لهم فيها ما يشاؤون لكونهم حينئذٍ أمرهم بأمر الله ، كان على ربك وعداً مسؤولاً ، أي : مطلوباً للعارفين والسائرين . وبالله التوفيق . ثمَّ شرح ما يلقى أهل التكذيب من الهول والفظاعة ، فقال : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ … }