Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 25, Ayat: 4-9)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جل جلاله : { وقال الذين كفروا } أي : تمردوا في الكفر والطغيان . قيل : هم النضر بن الحارث ، وعبد الله بن أمية ، ونوفل بن خويلد ، ومن ضاهاهم . وقيل : النضر فقط ، والجمع لمشايعة الباقين له في ذلك . قالوا : { إنْ هذا } ما هذا القرآن { إلا إفكٌ } كذب مصروف عن وجهه { افتراه } اختلقه واخترعه محمد من عند نفسه ، { وأعانة عليه } أي : على اختلاقه { قومٌ آخرون } ، يعنون : اليهود ، بأن يلقوا إليه أخبار الأمم الدارسة ، وهو يعبر عنها بعبارته . وقيل : هم عدَّاس ، ويسار ، وأبو فكيهة الرومي ، كان لهم علم التوراة والإنجيل . ويحتمل : وأعانه على إظهاره وإشاعته قوم آخرون ، ممن أسلم معه صلى الله عليه وسلم . قال تعالى : { فقد جاؤوا } ، وأتوا { ظُلماً } أو : بظلم ، فقد تستعمل جاء بمعنى فعل ، فتتعدى تعديته ، أو بحرف الجر ، والتنوين للتفخيم ، أي : جاؤوا ظلماً هائلاً عظيماً حيث جعلوا الحق البيِّن ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، إفكاً مفترى من قول البشر ، وجعلوا العربي الفصيح يتلقى من العجمي الرومي ، وهو من جهة نظمه الفائق وطرازه الرائق لو اجتمعت الإنس والجن على مباراته لعجزوا عن مثل آية من آياته . ومن جهة اشتماله على الحكم العجيبة ، المستتْبعة للسعادات الدينية والدنيوية ، والأمور الغيبية ، بحيث لا يناله عقول البشر ، ولا تفي بفهمه الفهوم ، ولو استعملوا غاية القوى والقدر . { و } أتوا أيضاً { زُوراً } أي : كذباً كثيراً ، لا يُبْلَغُ غايتُه حيث نسبوا إليه صلى الله عليه وسلم ما هو بريء منه . { وقالوا أساطيرُ الأولين } أي : هو أحاديث المتقدمين ، وما سطروه من خرافاتهم كرُستم وغيره . جمع أسطار ، أو أسطورة ، { اكتتبها } كتبها لنفسه ، أو : استكتبتها فكُتبت له ، { فهي تُملى عليه } أي : تُلقى عليه من كتابه { بكرةً } : أول النهار { وأصيلاً } آخره ، فيحفظ ما يتلى ثم يتلوه علينا . انظر هذه الجرأة العظيمة ، قاتلهم الله ، أنى يؤفكون ؟ . { قل } يا محمد : { أنزله الذي يعلم السرَّ في السمواتِ والأرضِ } أي : يعلم كل سر خفي في السماوات والأرض ، يعني : أن القرآن ، لما اشتمل على علم الغيوب ، التي يستحيل عادة أن يعلمها محمد صلى الله عليه وسلم من غير تعلم إلهي ، دلَّ على أنه من عند علام الغيوب ، أي : ليس ذلك مما يُفْتَرَى ويختلق ، بإعانة قوم ، وكتابة آخرين من الاحاديث والأساطير المتقدمة ، بل هو أمر سماوي ، أنزله الذي لا يعزب عن علمه شيء ، أودع فيه فنون الحِكَم والأحكام ، على وجه بديع ، لا تحوم حوله الأفهام ، حيث أعجزكم قاطبة بفصاحته وبلاغته ، وأخبركم بأمور مغيبات ، وأسرار مكنونات ، لا يهتدي إليها ولا يوقف عليها إلا بتوقيف العليم الخبير ، ثم جعلتموه إفكاً مفترى ، واستوجبتم بذلك أن يصبَّ عليكم العذاب صباً ، لولا حِلمه ورحمته ، { إنه كان غفوراً رحيماً } فأمهلكم ، ولم يعاجلكم بالعقوبة . وهو تعليل لما هو المشاهد من تأخير العقوبة عنهم ، أي : كان أزلاً وأبداً مستمراً على المغفرة والرحمة ، فلذلك لم يعاجلكم بالعقوبة على ما تقولون في حقه وفي حق رسوله ، مع كمال اقتداره . ثم ذكر طعنهم فيمن نُزل عليه ، فقال : { وقالوا مَالِ هذا الرسولِ } وقعت اللام في المصحف مفصولة عن الهاء ، وخط المصحف سُنّة لا يغير . وتسميتهم إياه بالرسول سخرية منهم ، كأنهم قالوا : أي شيء لهذا الزاعم أنه رسول يأكل الطعام كما تأكلون ، ويمشي في الأسواق لابتغاء الأرزاق كما تمشون ، أي : إن صح ما يدعيه فما له لم يخالف حالنا ؟ ! { لولا أُنزل إليه ملَكَ } على صورته { فيكون معه نذيراً } ، وهذا منهم تنزل عن اقتراح كونه صلى الله عليه وسلم ملكاً مستغنياً عن المادة الحسية ، إلى اقتراح أن يكون معه ملك يُصدقه ، ويكون ردءاً له في الإنذار ، ويُعبر عنه ، ويفسر ما يقوله للعامة . { أو يُلْقَى إليه كنزٌ } من السماء ، يستغني به عن طلب المعاش معنا ، { أو تكونُ له جنةٌ } بستان { يأكل منها } كالأغنياء المياسير . والحاصل : أنهم أول مرة ادعوا أن الرسول لا يكون إلا كالملائكة ، مستغنياً عن الطعام والشراب ، وتعجبوا من كون الرسول بشراً ، ثم تنزلوا إلى اقتراح أن يكون إنساناً معه ملك يُصدقه ويعينه على الإنذار ، ثم تنزلوا إلى اقتراح أن يكون معه كنز ، يستظهر به على نوائبه ، ثم تنزلوا إلى اقتراح أن يكون رجلاً له بستان يأكل منه ، كالمياسير ، أو نأكل نحن منه ، على قراءة حمزة والكسائي . قال تعالى : { وقال الظالمون } وهم الكفرة القائلون ما تقدم ، غير أنه وضع الظاهر موضع المضمر ، تسجيلاً عليهم بالظلم وتجاوز الحد فيه . وهم كفار قريش ، أي : قالوا للمؤمنين : { إن تتبعون } ما تتبعون { إلا رجلاً مسحوراً } قد سُحر فغلب على عقله ، { انظر كيف ضربوا لك الأمثال } أي : انظر كيف قالوا في حقك تلك الأقاويل العجيبة ، الخارجة عن العقول ، الجارية لغرابتها ، مجرى الأمثال ، واخترعوا لك تلك الصفات والأحوال الشاذة ، البعيدة عن الوقوع ؟ ! { فضلّوا } عن طريق الجادة { فلا يستطيعون سبيلاً } فلا يجدون طريقاً إليه ، أو : فلا يجدون سبيلاً إلى القدح في نبوتك ، بأن يجدوا قولاً يستقرون عليه ، أو : فضلّوا عن الحق ضلالاً مبيناً ، فلا يجدون طريقاً موصلاً إليه ، فإن من اعتاد استعمال هذه الأباطيل لا يكاد يهتدي إلى استعمال المقدمات الموصلة إلى الرشد والصواب . وبالله التوفيق . الإشارة : تكذيب الصادقين سُنَّة ماضية ، فإن سمع أهل الإنكار منهم علوماً وأسراراً قالوا : ليست من فيضه ، إنما نقلها عن غيره ، وأعانه على إظهارها قومٌ آخرون ، قل : أنزلها على قلوبهم الذي يعلم السر في السماوات والأرض ، أنه كان غفوراً رحيماً ، حيث ستر وصفهم بوصفه ونعتهم بنعته ، فوصلهم بما منه إليهم ، لا بما منهم إليه . وقوله تعالى : { مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق } ، أنكروا وجود الخصوصية مع وصف البشرية ، ولا يلزم من وجود الخصوصية عدم وصف البشرية ، كما تقدم مراراً . والله تعالى أعلم . ثم ردَّ الله تعالى عليهم ، فقال : { تَبَارَكَ ٱلَّذِيۤ إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً … }