Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 25, Ayat: 32-34)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جل جلاله : { وقال الذين كفروا } يعني : قريشاً ، وهم القائلون : { لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا ٱلْمَلاَئِكَةُ أَوْ نَرَىٰ رَبَّنَا } [ الفرقان : 21 ] ، والتعبير عنهم بعنوان الكفر لذمهم ، والإشعار بِعِلِّيَّةِ الحكم ، قالوا : { لولا نُزِّل عليه القرآنُ } ، نُزِّل هنا بمعنى أُنْزِلَ ، وإلا كان متدافعاً لأن التنزيل يقتضي التدرج بصيغته ، وهم إنما اقترحوا الإنزال جملة ، أي : هلاَّ أنزل القرآن ، حال كونه { جملةً واحدةً } أي : دفعة واحدة في وقت واحد ، كما أنزلت الكتب الثلاثة ، وماله أنزل مفرقاً في سنين ؟ وبطلان هذه المقالة الحمقاء مما لا يكاد يخفى على أحد فإن الكتب المتقدمة لم يكن شاهد صحتها ، ودليل كونها من عند الله ، إعجازُها ، وأما القرآن الكريم ، فبينة صحته ، ودليل كونه من عند الله ، نظمُه المعجز الباقي على مر الدهور ، ولا ريب في أن ما يدور عليه فلك الإعجاز هو المطابقة لما تقتضيه الأحوال ، ومن ضرورية تغيرها وتجددها تغيرُ ما يطابقها حتماً ، على أن له فوائد أخرى ، قد أشير إلى بعض منها بقوله : { كذلك لنُثبّتَ به فؤادَك } فإنه استئناف وارد من جهته تعالى لرد مقالتهم الباطلة ، وبيان الحكمة في التنزيل التدريجي . قاله أبو السعود . أي : أنزلناه كذلك مفرقاً في عشرين سنة ، أو ثلاث وعشرين لنثبت به فؤادك ، ونقوي به يقينك ، فَكُلَّمَا نزل شيء من الوحي قوي القلب ، وازداد اليقين ، حتى يصير إلى عين اليقين وحق اليقين . قال القشيري : لأنه لو كان دفعة واحدة لم يتكرر نزول جبريل - عليه السلام - بالرسالة في كل وقت وحين . وكثرة نزوله كان أوجبَ لسكون قلبه ، وكمال رَوْحه ، ودوام أُنْسه ، ولأنه كان جبريل يأتيه في كل وقت بما يقتضيه ذلك الوقتُ من الكوائن والأمور الحادثة ، فكان ذلك أبلغ في كونه معجزة ، وكان أبعدَ من التهم من أن يكون من جهة غيره ، وبالاستعانة بمن سواه حاصلاً . هـ . وقال القرطبي بعد كلام : أيضاً : لو أنزل جملة ، بما فيه من الفرائض لثقل عليهم ، وأيضاً : في تفريقه تنبيه لهم ، مرة بعد مرة ، وهو أنفع لهم ، وأيضاً فيه ناسخ ومنسوخ ، ولو نزل ذلك جملة لنزل فيه الأمر بالشيء وبتركه ، وهو لا يصح . هـ . وقال النسفي : لنقوي ، بتفريقه ، فؤادك حتى تعيه وتحفظه لأن المتلقي إنما يقوى قلبه على حفظ العلم شيئاً بعد شيء ، وجزءاً عقب جزء ، ولو ألقي عليه جملة واحدة لعجز عن حفظه . أو : لنُثبت به فؤادك عن الضجر وذلك بتواتر الوصول وتتابع الرسول لأن قلب المحب يسكن بتواصل كتب المحبوب . هـ . { ورتلناه ترتيلا } أي : كذلك فرقناه ورتلناه ترتيلاً بديعاً عجيباً ، أي : قدرناه آية بعد آية ووقفة عقب وقفة ، وأمرنا بترتيل قراءته ، بقولنا : { وَرَتِّلِ ٱلْقُرْآنَ تَرْتِيلاً } [ المزمل : 4 ] أو : فصلناه تفصيلاً ، أو : بيّناه تبييناً فيه ترتيل وتثبيت . { ولا يأتونك بمَثَلٍ } بسؤال عجيب من سؤالاتهم الباطلة ، واقتراحاتهم الفاسدة الخارجة عن دائرة العقول ، الجارية لذلك مجرى الأمثال ، { إلا جئناك بالحقِّ } إلا أتيناك بالجواب الحق الذي لا محيد عنه ، الذي ينحى عليه بالإبطال ويحسم مادة القيل والقال ، كما مر من الأجوبة الحقية ، القالعة لعروق أسئلتهم الشنيعة ، الدامغة لها بالكلية . وجئناك بأحسن { تفسيراً } أي : بيانأ وتفصيلاً ، بمعنى أنه في غاية ما يكون من الحسن في حد ذاته ، لا أن ما يأتون به حَسَنٌ ، وهذا أحسن منه ، وإنما المعنى : لا يسألونك عن شيء غريب إلا جئناك بما يبطله وما يكشف معناه ، ويفسره غاية التفسير . ثم ذكر مآل الكفرة المقترحين لهذه الشُّبَهِ ، فقال : { الذين يُحشرون على وجوههم إلى جهنم } أي : يُحشرون كائنين على وجوههم ، يُسبحون عليها ، ويجرون إلى جهنم . وقيل : مقلوبين وجوههم إلى قفاهم ، وأرجلُهم فوق ، { أؤلئك شرٌّ مكاناً } أي : مكانة ومنزلة ، أو : مسكناً ومنزلاً ، { وأضلُّ سبيلا } وأخطأ طريقاً . ونزلت الآية لَمَّا قالوا : إن أصحاب محمد شر خلق الله وأضل الناس طريقاً . وقيل : المعنى : إن حاملكم على هذه السؤالات اعتقادُكُمَ أن محمداً ضال ، ومكانه حقير ، ولو نظرتم إلى ما يؤول إليه أمركم ، لعلمتم أنكم شر منه مكاناً ، وأضل سبيلاً . والله تعالى أعلم . الإشارة : تثبيت القلوب على الإيمان ، وتربية اليقين ، يكون بصحبة الأبرار ورؤية العارفين الكبار ، والترقي في معاريج التوحيد ، إلى أن يفضي إلى مقام العيان ، يكون بعقد الصحبة مع أهل التربية ، وخدمتهم وتعظيمهم ، حتى يوصلوه إلى ربه . ومن شأنهم أن الله يدافع عنهم ، ويجيب من سألهم تشغيباً ، فيلهمهم الجواب ، فضلاً منه ، فلا يُسألون عن شيء إلا جاءهم بالحق وأحسن تفسيراً ، ثم هدد من صغَّرهم وحقَّر شأنهم بقوله : { الذين يُحشرون … } الآية . والله تعالى أعلم . ثم ردّ على من طلب انزال القرآن جملة بكون كتاب التوراة نزل جملة ، ومع ذلك كفروا به ، فقال : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَابَ … }