Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 25, Ayat: 45-50)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جل جلاله : { ألم تَر } يامحمد { إلى رَبّكَ } أي : ألم تنظر إلى بديع صنع ربك ودلائل قدرته وتوحيده . والتعرض لعنوان الربوبية ، مع الإضافة إلى ضميره - عليه الصلاة والسلام - ، لتشريفه وتبجيله ، وللإيذان بأن ما يعقبه من آثار قدرته ورحمته ، { كيف مَدَّ الظِّلَّ } أي : بسطه حتى عمَّ الأرض ، وذلك من حين طلوع الفجر إلى وقت طلوع الشمس ، في قول الجمهور لأنه ظل ممدود ، لا شمس معه ولا ظلمة ، فهو شبيه بظل الجنة . وقيل : مد ظل الأشياء الشاخصة أول النهار من شجر ، أو مدر ، أو إنسان ، ثم قبضها وردها إلى المشرق . { ولو شاء لجعله ساكناً } أي : دائماً لا يزول ولا تُذهبه الشمس ، أو : لا ينتقص بسيرها . { ثم جعلنا الشمسَ عليه } أي : على الظل { دليلاً } ، لأنه بالشمس يُعرف الظل ، فلولا طلوعها وظهورها ما عرف الظل ، ولا ظهر له أثر ، فالأشياء تُعرف بأضدادها . { ثم قبضناه } أي : أخذنا ذلك الظل الممدود { إلينا } إلى حيث إرادتنا { قَبْضاً يسيراً } أي : على مهل قليلاً قليلاً ، حسب ارتفاع دليله ، على حسب مصالح المخلوقات ومرافقها . { وهو الذي جعلَ لكم الليلَ لباساً } أي : جعل الظلام الساتر كاللباس { والنوم سباتاً } أي : راحة لأبدانكم ، وقطعاً لأعمالكم . والسبت : القطع ، والنائم مسبوت لأنه انقطع عمله وحركته ، وقيل السبات : الموت ، والميت مسبوت لأنه مقطوع الحياة ، كقوله : { وَهُوَ ٱلَّذِى يَتَوَفَّاكُم بِٱلَّيْلِ } [ الأنعام : 60 ] . ويعضده ذكر النشور في مقابلته بقوله : { وجعل النهار نُشُوراً } أي : ذا نشور ، أي : انبعاث من النوم ، كنشور الميت ، أو : ينشر فيه الخلق للمعاش . وهذه الآية ، مع دلالتها على قدرته تعالى ، فيها إظهار لنعمته تعالى لأن في الاحتجاب بستر الليل فوائد دينية ودنيوية ، وفي النوم واليقظة - المشبهين بالموت والبعث - عبرة للمعتبرين . قال لقمان لابنه : كما تنام فتوقظ ، كذلك تموت فتنشر . { وهو الذي أرسل الرياحَ } ، وعن المكي بالإفراد ، { نشراً } : جمع نشور ، أي : أرسلها للسحاب حتى تسوقها إلى حيث أراد تعالى أن تمطر ، { بين يدي رحمته } أي : أرسلها قدام المطر ، لأنه ريح ، ثم سحاب ، ثم مطر . وقرأ عاصم الباء ، أي : مبشرات بالمطر . { وأنزلنا من السماء ماءً طَهُوراً } أي : مطهراً بالغاً في التطهير ، كقوله : { لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ } [ الأنفال : 11 ] وهو اسم لما يتطهر به ، كالوضوء والوقود ، لِمَا يتوضأ به ويوقد به . وقيل : طهور في نفسه ، مبالغة في الطاهرية ، فالطهور في العربية يكون صفة ، كما تقول : ماء طهور ، واسماً ، كما في قوله صلى الله عليه وسلم : " التراب طهور ، والمؤمن طهور " وقد يكون مَصْدَراً بمعنى الطهارة ، كقولك : تطهرت طهوراً حسناً ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : " لا صلاة إلا بطهور " ووصْفُهُ تعالى الماءَ بذلك ليكون أبلغ في النعمة ، فإن الماء الطهور أنفع وأهنأ مما خالطه ما يزيل طهوريته ، أي : أنزلناه كذلك . { لنُحيي به } أي : بالمطر الطهور { بلدةً ميتاً } بالجدب والقحط ، فحييت بالنبات والعشب . والتذكير لأن البلدة بمعنى البلد ، والمراد به : القطعة من الأرض عامرة أو غامرة . { ونُسْقِيَهُ } أي : ذلك الماء الطهور ، عند جريانه في الأودية ، أو اجتماعه في الآبار والحياض ، { مما خلقنا أنعاماً وأَنَاسِيَّ كثيراً } أي : نسقي ذلك بهائم وناساً كثيراً . والأناسي : جمع أُنْسِيّ ، ككرسي وكراسي . وقيل : جمع إنسان ، وأصله : أناسين ، وأبدلت النون ياءً ، وأدغمت التي قبلها فيها . وقدَّم إحياء الأرض على سقي الأنعام والأناسي لأن حياتها سبب لحياتهما . وتخصيص الأنعام من بين سائر الحيوان لأن عامة منافع الإنسان متعلقة بها . { ولقد صرَّفناه } أي : هذا القول ، الذي هو إنشاء السحاب وإنزال المطر ، على الوجه الذي مرّ من الغايات الجميلة ، في القرآن وغيره من الكتب السماوية ، أو : صرفنا المطر عاماً بعد عام وفي بلدة دون أخرى . أو صرفناه بينهم وابلاً ، وطَلاًّ ، ورذاذاً وديمة . وقيل : التصريف راجع إلى الريح . وقيل : إلى القرآن المتقدم في قوله : { لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ ٱلْقُرْآن } [ الفرقان : 32 ] ويعضده : { وَجَاهِدْهُم بِهِ } [ الفرقان : 52 ] . وقوله : { بينهم } أي : بين الناس جميعاً متقدمين ومتأخرين ، { ليذَّكَّرُوا } ليتفكروا ويعرفوا قدر النعمة فيه ، أو : ليعرفوا بذلك كمال قدرته وسعة رحمته ، { فأبَى أكثرُ الناس } ممن سلف وخلف { إلا كفوراً } أي : جُحُداً لهذه النعمة وقلة اكْتِرَاثٍ بها ، وربما نسبوها إلى غير خالقها ، فيقولون : مُطرنا بنَوْء كذا . وفي البخاري عنه صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى : " أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وكَافِرٌ ، فَأَما مَنْ قَالَ : مُطِرْنَا بِفَضْل الله ورَحْمَتهِ فَذلِكَ مُؤْمِنٌ بِي ، كَافِرٌ بالكَواكِب . وأما مَنْ قَالَ : مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا ، فهو كافِرُ بِي ، مُؤْمِنٌ بالكَواكِبِ " فمن نسب الأمطار إلى الأنواء ، وجَحَد أن تكون هي والأنواء من خلق الله ، فقد كفر ، ومن اعتقد أن الله خالقها ، وقد نصب الأنواء أمارات ودلالات عليها ، لم يكفر . وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ليس سَنَةٌ بأمطر من الأخرى ، ولكن الله تعالى قسم هذه الأرزاق ، فجعلها في سماء الدنيا ، في هذا القطر ، ينزل منه كل سنة بكيل معلوم ووزن معلوم . ولكن إذا عمل قوم بالمعاصي حوَّل الله ذلك إلى غيرهم ، فإذا عصوا جميعاً صرف الله ذلك إلى الفيافي والبحار " والله تعالى أعلم . الإشارة : الكون كله ، من جهة حسه الظاهر ، ظل آفل ، وضباب حائل ، لا وجود له من ذاته ، وإنما الوجود للمعاني القديمة الأزلية . فنسبة الكائنات ، من بحر المعاني الأزلية ، كنسبة ظلال الأشجار في البحار . فظلال الأشجار في البحار لا تمنع السفن من التسيار فكذلك ظلال الكائنات لا تمنع سفن الأفكار من الخوض في بحار المعاني الأزلية الجبروتية ، بل تخرقها ، وتخوض في بحار الأحدية الجبروتية ، الأولية والآخرية ، والظاهرية والباطنية ، والعلوية والسفلية ، ولا يحجبها عن الله ظل شيء من الكائنات ، وإليه الإشارة قوله : ألم تر ، أيها العارف ، إلى ربك كيف مد الظل ، أي : مد ظل الكائنات ليعرف بها كنز ربوبيته وبطون غيبه ، ثم يرفع ذلك الظل عن عين البصيرة ، التي أراد فتحها ، فتشاهد بطون الأزل وغيب الغيب ، وتصير عارفة بالله . ولو شاء لجعله ساكناً ، فيقع به الحجاب ، فيحجب العبد بسحب الآثار عن شهود الأنوار . ثم جعلنا شمس العرفان عليه أي : على الأثر ، دليلاً ، فيستدل بالله على غيره ، فلا يرى غيره ، ثم قبضناه ، أي : ذلك الظل ، عن قلب السائر أو العارف ، قبضاً يسيراً ، فيغيب عنه شيئاً فشيئاً ، حتى يفنى عن حسه وحس غيره من الكائنات ، فلا يشهد إلا المكوِّن لأن ذلك إنما يكون بالتدرج والتدريب ، فإذا تحقق فناؤه رجع إلى شهود الأثر بالله قياماً برسم الحكمة ، وأداءاً لحق العبودية . وهو الذي جعل ليل القبض لباساً ، أي : ستراً ورداء من الهفوات لأن القبض يغلب فيه السكون ، وجانبه مأمون ، والنوم - أي : الزوال - سُباتاً ، أي : راحة من كد التدبير والاختيار ، وجعل نهار البسط نشوراً ، تنتشر فيه العلوم وتنبسط فيه المعارف ، إن قام صاحبه بآدابه ، ولا يقوم به إلا القليل لأنه مزلة أقدام ، ولذلك قال في الحكم : " ربما أفادك في ليل القبض ما لم تستفده في إشراق نهار البسط ، لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً " . وهو الذي أرسل رياح الواردات الإلهية نُشْراً بين يدي رحمته ، أي : معرفته إذ لا رحمة أعظم منها ، وأنزلنا من سماء الغيوب ماءاً طهوراً ، وهو العلم بالله ، الذي تحيا به الأرواح والأسرار ، وتطهر به قلوب الأحرار ، لنحيي به بلدة ميتاً ، أي : روحاً ميتة بالجهل والغفلة ، ونُسقيه مما خلقنا أنعاماً وأناسي كثيراً لأن ماء المعاني سارٍ في كل الأواني فماء التوحيد سار في الأشياء كلها ، جَهلَ هذا مَنْ جهله ، وعرفه من عرفه . وأكثر الناس جاحدون لهذا . ولذلك قال تعالى : { ولقد صرفناه بينهم } فكل شيء فيه سر من حياة هذا الماء ، فأبى أكثر الناس إلا كفوراً وجحوداً له ، ولم ينتفع به إلا خواص أوليائه . وبالله التوفيق . ثم إن هذا الماء إنما يسقى على أيدي الوسائط . وكان القياس تعددهم كتعدد سحابات الأمطار بتعدد الأقطار ، لكن خُولف ذلك في حق نبينا صلى الله عليه وسلم تشريفاً لقدره ، وتعظيماً لأمره . ثم إن هذا الماء إنما يسقى على أيدي الوسائط . وكان القياس تعددهم كتعدد سحابات الأمطار بتعدد الأقطار ، لكن خُولف ذلك في حق نبينا صلى الله عليه وسلم تشريفاً لقدره ، وتعظيماً لأمره ، كما أشار إلى ذلك بقوله : { وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ … }