Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 26, Ayat: 176-191)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جل جلاله : { كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ } وهي : الغيضة التي تنبت الشجر ، والمراد بها : غيضة بقرب مدين ، يسكنها طائفة منهم ، وكانوا ممن بعث إليهم شعيب عليه السلام ، وكان أجنبياً منهم ، ولذلك قيل : { إذ قال لهم شُعيبٌ } ولم يقل : أخوهم ، بخلاف مدين ، فإنه منهم ، ولذلك قال : { أَخَاهُمْ شُعَيْباً } [ الأعراف : 85 وهود : 84 والعنكبوت : 36 ] وقيل : الأيكة : الشجر الملتف ، وكان شجرهم المقل ، وهو الدوم . قال قتادة : بعث الله شعيباً إلى أمتين أصحاب الأيكة وأصحاب مدين . فأهلك الله أصحابَ الأيكة بالظُلة ، وأما أهل مدين فصاح بهم جبريل صيحة فهلكوا . وقرئ : " لَيْكَةِ " بحذف الهمزة ، وإلقاء حركتها على اللام ، وإنما كتبت هنا وفي " ص " باللام اتباعاً للفظ . { إِذْ قَالَ لهم شُعيبٌ أَلا تَتَّقُون } الله ، فتوحدوه ولا تُطففوا ، { إني لكم رسول امين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه } أي : التبليغ { من أجرٍ إنْ أجريَ إلا على رب العالمين ، أوْفُوا الكَيْلَ } أي : أتموه { ولا تكونوا من المخْسِرين } أي : حقوق الناس بالتطفيف ، { وزِنُوا } أشياءكم التي تبيعونها { بالقِسْطَاسِ المستقيم } السوي . والقسطاس - بضم القاف وكسرها : الميزان ، فإن كان من القسط - وهو العدل ، وجعلت العين مكررة - فوزنه : فُعْلاَس ، وإلا فهو رباعي ، ووزنه : فُعْلاَلٌ . وقيل : عجمي . { ولا تبخسوا الناس أشياءَهم } أي : لا تنقصوا شيئاً من حقوقهم ، أيّ حق كان ، يقال : بخسه حقه : إذا انتقصه . وقيل : نهاهم عن نقص الدراهم والدنانير بقطع أطرافها . فالكيل على ثلاثة أقسام : واف ، وزائد وناقص . فأمر الحق تعالى بالوافي ، ونهى عن الناقص ، وسكت عن الزائد ، فَتَرْكُهُ دَليلٌ على أنه إن فعله كان أحسن ، وإن تركه فلا عليه . { ولا تَعْثَوا في الأرض مفسدين } ولا تبالغوا فيها بالإفساد ، وذلك نحو قطع الطريق ، والغارة ، وإهلاك الزروع . وكانوا يفعلون ذلك فنهُوا عنه ، يقال : عَثِيَ كفرح ، وعثا يعثو ، كنصر . { واتقوا الذي خلقكم و } خلق { الجِبلّة الأولين } أي : الخلق الماضين ، وهم من تقدمهم من الأمم ، { قالوا إنما أنتَ من المسحَّرِين وما انت إلا بشرٌ مثلنا } ، أدخل الواو بين الجملتين هنا لدلالةٍ على أن كلا من التسحير والبشرية مناف للرسالة مبالغة في التكذيب ، فتكذيبهم أقبح من ثمود حيث تركه فدل على معنى واحد وهو كونه مسحوراً وقرره بكونه بشراً . ثم قالوا : { وإنْ نظنك } " إن " : مخففة ، أي : وإنه ، أي : الأمر والشأن لنظنك { لمن الكاذبين } فيما تدعيه من النبوة . ثم استعجلوا العذاب بقولهم : { فَأَسْقِطْ علينا كِسفاً من السماء } أي : قطعاً ، جمع كِسْفة ، وقرئ بالسكون . أي : جُزءاً منه ، والمراد بالسماء : إما السحاب ، أو : السماء المظلة ، { إن كنت من الصادقين } في دعواك الرسالة ، ولم يكن طلبهم ذلك إلا لتصميمهم على الجحود والتكذيب ، وإلا لما أخطروه ببالهم فضلاً عن أن يطلبوه . { قال } شعيب عليه السلام : { ربي أعلمُ بما تعملون } من الكفر والمعاصي ، وبما تستحقونه من العذاب ، فينزله عليكم في وقته المقدر له لا محالة ، { فكذّبوه } أي : فتمادوا على تكذيبه ، وأَصروا عليه { فأخذهم عذابُ يومِ الظُّلَّة } حسبما اقترحوه . وذلك بأن سلط عليهم الحر سبعة أيام بلياليها ، فأخذ بأنفاسهم ، فلم ينفعهم ظل ولا ماء ولا شرب ، فاضطروا إلى أن خرجوا إلى البرية ، فأظلتهم سحابة ، وجدوا فيها برداً ونسيماً ، فاجتمعوا تحتها ، فأمطرت عليهم ناراً فاحترقوا جميعاً . وقيل : رفع لهم جبل ، فاجتمعوا تحته ، فوقع عليهم ، وهو الظلة . وقيل : لما ساروا إلى السحابة صيح بهم فهلكوا . { إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يومٍ عظيمٍ } أي : في الشدة والهول ، وفظاعة ما وقع فيه من الطامة والداهية التامة . { إن في ذلك لآيةً وما كان أَكْثرُهُمْ مؤمنين } قيل : آمن بشعيب من القِسْمَيْنِ - مدين والأيكة - تسعمائة إنسان ، أو : وما أكثر قريش بمؤمنين بهذا ، { وإن ربك لهو العزيز الرحيم } . هذا آخر القصص السبع التي أُوحيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لصرفه - عليه الصلاة والسلام - عن الحرص على إسلام قومه ودفع تحسر فواته ، تحقيقاً لمضمون ما مر في مطلع السورة الكريمة من قوله : { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ … } [ الشعراء : 3 ] . إلخ ، { وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُواْ } [ الشعراء : 5 ، 6 ] الآية ، فإن كل واحدة من هذه القصص ذكر متجدد النزول ، قد أتاهم من جهته تعالى ، بموجب رحمته الواسعة . { وما كان أكثرهم مؤمنين } بعد ما سمعوها على التفصيل ، قِصَّةً بعد قصةٍ ، ليتدبروا فيها ، ويعتبروا بما في كل واحدة من الدواعي إلى الإيمان ، والزجر عن الكفر والطغيان ، وبأن يتأملوا في شأن الآيات الكريمة ، الناطقة بتلك القصص ، على ما هي عليه ، مع علمهم بأنه - عليه الصلاة والسلام - لم يسمع شيئاً من ذلك من أحدٍ أصلاً ، فلم يفعلوا شيئاً من ذلك واستمروا على ما كانوا عليه من الكفر والضلال . وبالله التوفيق . الإشارة : كما أمر الله تعالى بوفاء المكيال ، أمر بالوفاء في الأعمال ، ووفاؤها : إتقانها وإخلاصها ، وتخليصها من شوائب النقص ، في الظاهر والباطن . وكما أمر بالعدل في الميزان الحسي بقوله : { وزنوا بالقسطاس المستقيم } ، أمر بالعدل في الميزان المعنوي ، وهو وزن الخواطر بالقسطاس الشرعي ، فكل خاطر يخطر بالقلب يريد أن يفعله أو يتكلم به ، لا يُخرجه ، حتى يزنه بميزان الشرع ، فإن كان فيه نفع أخرجه كما كان ، أو غيَّره ، وإن كان فيه ضررٌ بادَرَ إلى محوه من قلبه ، قبل أن يصير هماً أو عزماً ، فيعسر رده . وبالله التوفيق . ثم ذكر شواهد حقية القرآن ، فقال : { وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ … }