Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 26, Ayat: 18-29)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جل جلاله : لما أتى موسى وهارونُ فرعونَ وبلَّغا الرسالة ، { قال } له : { ألم نُربِّك … } إلخ ، رُوي أنهما أتيا بابه فلم يُؤذن لهما سنة ، حتى قال البواب : إن هنا إنساناً يزعم أنه رسول رب العالمين ، فقال : ائذن له ، لعلنا نضحك منه ، فأَذِن ، فدخل ، فأدى الرسالة ، فعرفه فرعونُ ، فقال له : { ألم نُربِّك فينا } في حِجْرنا ومنازلنا ، { وليداً } أي طفلاً . عبّر عنه بذلك لقُرب عهده بالولادة . وهذه من فرعون معارضة لقول موسى عليه السلام : { إنا رسول رب العالمين } ، بنسبته تربيته إليه وليداً . ولذلك تجاهل بقوله : { وما ربُّ العالمين } ، وصرح بالجهل بعد ذلك بقوله : { لئن اتخذت إلهاً غيري … } إلخ ، { ولبثتَ فينا من عُمُرِكَ سنين } قيل : لبث فيهم ثلاثين سنة ، ثم خرج إلى مدين ، وأقام به عشر سنين ، ثم عاد يدعوهم إلى الله - عز وجل - ثلاثين سنة ، ثم بقي بعد الغرق خمسين ، وقيل : قتل القبطي وهو ابن ثنتي عشرة سنة ، وفرّ منهم على إثر ذلك . والله أعلم . ثم قال له : { وفعلتَ فَعْلَتك التي فعلتَ } يعني : قتل القبطي ، بعدما عدد عليه نعمته من تربيته ، وتبليغه مبلغ الرجال ، وبّخه بما جرى عليه مع خبازه ، أي : قتلت صاحبي ، { وأنت من الكافرين } بنعمتي ، حيث عمدت إلى قتل رجل من خواصي ، أو : أنت حينئذٍ ممن تفكر بهم الآن ، أي : كنت على ديننا الذي تسميه كفراً ، وهذا افتراء منه عليه لأنه معصوم ، وكان يعاشرهم بالتقية ، وإلا فأين هو عليه السلام من مشاركتهم في الدين . { قال فعلتُها إذاً } أي : إذ ذاك { وأنا من الضالين } أي : من المخطئين لأنه لم يتعمد قتله ، بل أراد تأديبه ، أو : الذاهلين عما يؤدي إليه الوكز . أو : من الضالين عن النبوة ، ولم يأت عن الله في ذلك شيء ، فليس عليَّ توبيخ في تلك الحالة . والفرض أن المقتول كافر ، فالقتل للكافر لم يكن فيه شرع ، وهذا كله لا ينافي النبوة . وكذلك التربية لا تنافي النبوة . { ففررتُ منكم } إلى ربي ، متوجهاً إلى مدين { لمّا خِفْتُكم } أن تصيبني بمضرة ، أو تؤاخذني بما لا أستحقه . { فوهب لي ربي حُكماً } أي : حكمة ، أو : نبوة وعلماً ، فزال عني الجهل والضلالة ، { وجعلني من المرسلين } من جملة رسله ، { وتلك نعمة تمُنُّها عليَّ أن عَبدتَّ بني إسرائيل } أي : تلك التربية نعمة تمُن بها عليّ ظاهراً ، وهي في الحقيقة تعبيدك بني إسرائيل ، وقهرك إياهم ، بذبح أبنائهم ، فإنه السبب في وقوعي عندك وحصولي في تربيتك ، ولو تركتهم لرباني أبواي . فكأن فرعون في الحقيقة امتن على موسى بتعبيد قومه وإخراجه من حجر أبويه . فقال له موسى عليه السلام : أَوَ تلك نعمةٌ تَمُنٌُّها عَلَيَّ استعبادك لهم ، ليس ذلك بنعمة ، ولا لك فيها عليَّ منة ، وتعبيده : تذليلهم واستخدامهم على الدوام . ووحد الضمير في " تمنّها " و " وعبّدتَّ " ، وجمعها في " منكم " و " خفتكم " لأن الفرار والخوف كان منه ومن ملئه المؤتمرين به ، وأما الامتنان فمنه وحده . وحين انقطعت حجة فرعون وروغانه عن ذكر رب العالمين ، أخذ يستفهم موسى عن الذي ذكر أنه رسول من عنده مكابرة وتجاهلاً وتعامياً ، طلباً للرئاسة ، كما قال تعالى : { قال فرعونُ وما ربُّ العالمين } ، أي : أيُّ شيء رب العالمين ، الذي ادعيت أنك رسوله منكراً لأن يكون للعالمين رب غيره ، حسبما يعْربُ عنه قوله : { أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعْلَى } [ النازعات : 24 ] ، وقوله : { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرِي } [ القصص : 38 ] . أو : فما صفته ، أو حقيقته ؟ { قال } موسى : هو { ربُّ السمواتِ والأرضِ وما بينهما } أي : ما بين الجنسين ، { إن كنتم موقنين } أي : إن كنتم موقنين بالأشياء ، محققين لها ، علمتم ذلك ، أو : إن كنتم موقنين شيئاً من الأشياء ، فهذا أولى بالإيقان لظهور دليله وإنارة برهانه . { قال } فرعونُ ، عند سماع جوابه عليه السلام ، خوفاً من تأثيره في قلوبهم ، { لِمن حولَه } من أشراف قومه ، وكانوا خمسمائة مسورة بالأسورة : { أَلا تستمعون } ، أنا أسأله عن الماهية ، وهو يجيبني بالخاصية . ولما كانت ما هي الربوبية لا تُدرك ولا تنال حقيقتها ، أجابه بما يمكن إدراكه من خواص الماهية . ثم { قال } عليه السلام : { ربُّكم وربُّ آبائكم الأولين } أي : هو خالقكم وخالق آبائكم الأولين ، أي : وفرعون من جملة المخلوقين فلا يصلح للربوبية ، وإنما قال : { ورب آبائكم } لأن فرعون كان يدعي الربوبية على أهل عصره دون من تقدمهم . { قال } فرعونُ : { إنّ رَسُولَكُمْ الذي أُرْسِلَ إِليكُمْ لمجنون } حيث يزعم أن في الوجود ألهاً غيري ، أو : حيث لا يطابق جوابه سؤالي لأني أسأله عن الحقيقة وهو يجيبني بالخاصية ، { قال } موسى عليه السلام : { ربُّ المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون } فتستدلون بما أقول حتى تعرفوا ربكم . وهذا غاية الإرشاد ، حيث عمم أولاً بخلق السموات والأرض وما بينهما ، ثم خصص من العام أنفسهم وآباءهم لأنّ أقرب المنظور فيه من العاقل نفسه ، ومن ولد منه ، وما شاهد من أحواله ، من وقت ميلاده إلى وفاته ، ثم خصّص المشرق والمغرب لأن طلوع الشمس من أحد الخافقين وغروبهما في الآخر ، على تقدير مستقيم وحساب مستوٍ ، من أقوى الدلائل على وحدانية الربوبية ، ووجوب وجودها . أو : تقول : لما سأله عن ماهية الربوبية جهلاً فأجابه ، بالخاصية ، { قال ألا تستمعون } ؟ فعاد موسى إلى مثل قوله ، فجنّنه فرعون ، زاعماً أنه حائد عن الجواب ، فعاد ثالثاً مبيناً أن الواجب الوجود ، الفردَ الصمد ، لا يدرك بالكُنْهِ ، إنما يعرف بالصفات ، وما عرفه بالذات إلا خواص الخواص ، فالسؤال عن الذات من أمثاله جهل وحمق . ولذلك قال : { إن كنتم تعقلون } ، أي : إن كان لكم عقل علمتم أنه لا يمكن أن تعرفوه إلا بهذا الطريق . قال ابن جزيّ : إن قيل : كيف قال أولاُ : { إن كنتم موقنين } ، ثم قال آخراً : { إن كنتم تعقلون } ؟ فالجواب : أنه لاَيَنَ أولاً طمعاً في إيمانهم ، فلما رأى منهم العناد والمغالطة وبخهم بقوله " إن كنتم تعقلون " ، وجعل ذلك في مقابلة قول فرعون : { إن رسولكم الذي أُرسل إليكم لمجنون } . هـ . ولما تجبر فرعون وبهت { قال لَئِنِ اتَّخَذْتَ إلهاً غيري لأَجعلنَك من المسجونين } ، أي : لأجعلنك واحداً ممن عرفت حالهم في سجوني ، وكان من عادته أن يأخذ من يرى سجنه ، فيطرحه في هوّة ذاهبة في الأرض ، بعيدة العمق ، فرداً ، لا ينظر فيها ولا يسمع ، وكان ذلك أشدّ من القتل . ولو قال : لأسجننك ، لم يؤد هذا المعنى ، وإن كان أخصر . قاله النسفي . الإشارة : التربية لها حق يراعي ويجب شكرها ، ولا فرق بين تربية البشرية والروحانية . قال القشيري : لم يجحد موسى حقَّ التربية والإحسانَ إليه في الظاهر ، ولكن بَيَّنَ أنه إذا أمر الله بشيءٍ وَجَبَ اتباعُ أمره ، وإذا كانت تربية المخلوقين تُوجب حقاً ، فتربية الله أولى بأن يعَظِّمَ العبدُ قَدْرَها . هـ . فكل من أحسن إلى بشريتك بشيء وجب عليه شكره بالإحسان إليه ، ولو بالدعاء ، وكل من أحسن إلى روحانيتك بالعلم أو بالمعرفة ، وجب عليك خدمته وتعظيمه ، وإنكار ذلك بسبب المقت والطرد ، والعياذ بالله . وقول فرعون : { وما رب العالمين } : سؤال عن حقيقة الذات ، ومعرفة الكنه متعذرة إذ ليس كمثله شيء ، وأقرب ما يجاب به قوله تعالى : { هُوَ ٱلأَوَّلُ وَٱلآخِرُ وَٱلظَّاهِرُ وَٱلْبَاطِنُ } [ الحديد : 3 ] فهذه الأسماء الأربعة أحاطت بالذات في الجملة ، ولم تترك منها شيئاً ، والإحاطة بالكنه متعذرة ، ولو وقعت الإحاطة لم يبق للعارفين تَرَق ، مع أن ترقيهم في كشوفات الذات لا ينقطع أبداً ، في هذه الدار الفانية ، وفي تلك الدار الباقية . وبالله التوفيق . ثم ذكر معجزة العصا وما يتبعها ، فقال : { قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ … }