Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 27, Ayat: 15-16)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جل جلاله : { ولقد آتينا داودَ وسليمانَ عِلماً } أي : أعطينا كل واحد منهما طائفة خاصة به من علم الشرائع والأحكام ، وغير ذلك مما يختص به كل واحد منهما ، كصنعة الدروع ، ومنطق الطير . أو : علماً لدُنِيا . { وقالا } أي : كل واحد منهما ، شكراً لما أُوتيه من العلم : { الحمدُ لله الذي فضَّلنا } بما آتانا من العلم { على كثيرٍ من عباده المؤمنين } . قال النسفي : وهنا محذوف ، ليصلح عطف الواو عليه ، ولولا تقدير المحذوف لكان الوجه : الفاء ، كقولك : أعطيته فشكر ، وتقديره : آتيناهما علماً ، فعملا به ، وعرفا حق النعمة فيه ، وقالا : { الحمد لله الذي فضَّلنا على كثير } . والكثير المفضّل عليه : من لم يؤت علماً أو : من لم يؤت مثل علمهما . وفيه : أنهما فُضّلا على كثير وفضل عليهما كثير . وفي الآية دليلٌ على شرف العلم ، وتقدم حملته وأهله ، وأن نعمة العلم من أجلّ النعم ، وأن من أوتيه فقد أُوتي فضلاً على كثير من عباده ، وما سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورثة الأنبياء إلا لمداناتهم في الشرف والمنزلة لأنهم القوّام بما بُعِثُوا من أجله . وفيها : أنه يلزمهم لهذه النعمة الفاضلة أن يحمدوا الله تعالى على ما أوتوه ، وأن يعتقدَ العالم أنه إذا فُضّل على كثير فقد فُضّل عليه مثلهم . وما أحسن قول عمر رضي الله عنه : كلّ الناس أفقه من عمر . هـ . والعلماء على قسمين : علماء بالله وعلماء بأحكام الله . فالعلماء بالله هم العارفون به ، أهل الشهود والعيان . وهم أهل علم الباطن ، أعني علم القلوب ، والعلماء بأحكام الله هم علماء الشرائع والنوازل . وحيث انتهت درجة العلماء بأحكام الله ابتدئت درجة العلماء بالله . فنهاية علماء الظاهر بداية علماء الباطن لأن علم أهل الظاهر جله ظني ، وعلم أهل الباطن عياني ، ذوقي ، وليس الخبر كالعيان ، مع ما فاقوهم به من المجاهدة والمكابدة ، ومقاساة مخالفة النفوس ، وقطع المقامات ، حتى ماتوا موتات ، ثم حييت أرواحهم ، فشاهدوا من الأنوار والأسرار ما تعجز عنه العقول ، وتكلّ عنه النقول . ثم قال تعالى : { وورِثَ سليمانُ داودَ } . وَرِثَ منه النبوة والملك دون سائر بنيه وكانوا تسعة عشر . ووراثته للنبوة : انتقالها إليه بعد أبيه ، وإلا فالنبوة لا تورث . { وقال يا أيها الناس عُلِّمنا منطلقَ الطير } تشهيراً لنعمة الله ، واعترافاً بمكانها ، ودعاء للناس إلى تصديقه بذكر المعجزة التي هي علم منطق الطير . والمنطق : كل ما يصوَّت به من المفرد والمؤلّف ، والمفيد وغير المفيد . وكان سليمان عليه السلام يفهم عنها كما يفهم بعضها بعضاً . يُحكى أنه مرَّ على بلبل على شجرة ، يحرك رأسه ، ويميل ذنبه ، فقال لأصحابه : أتدرون ما يقول ؟ قالوا : الله ونبيه أعلم ، قال يقول : إذا أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العَفَاء . وصاحت فاختة ، فأخبر أنها تقول : ليت ذا الخلق لم يُخلقوا ، وصاح طاووس ، فقال : يقول : كما تدين تدان ، وصاح هُدهد ، فقال : يقول : من لا يرحم لا يُرحم ، وصاح صُّرَد - وهو طائر ضخم الرأس - فقال : يقول : استغفروا الله يا مذنبين ، وصاح طيطوى ، فقال : يقول : كل حي ميت ، وكل جديد بال . وصاح خُطَّاف ، فقال : يقول : قَدِّموا خيراً تجدوه . وصاح قُمْرِيّ ، فأخبر أنه يقول : سبحان ربي الأعلى . وصاحت رخمة ، فقال : إنها تقول سبحان ربي الأعلى ملء أرضه وسمائه . وفي رواية : هدرت حمامة ، فقال : إنها تقول : سبحان ربي الأعلى - مثل الرخمة - وقال : الغراب يدعو على العشَّار . والحِدَأة تقول : كل شيء هالك إلا وجهه . والقطاة تقول : من سكت سَلِمَ ، والببغاء تقول : ويل لمن الدنيا همه ، والديك يقول : اذكروا الله يا غافلين ، والنسر يقول : يا ابن آدم عش ما شئت ، آخرك الموت . والعُقاب يقول : في البُعد من الناس أُنس . والضفدع تقول : سبحان ربي القدوس . والبازي يقول : سبحان ربي وبحمده ، المذكور في كل مكان . والدراج يقول : الرحمن على العرش استوى . والقنب يقول : إلهي العن مبغض آل محمد ، عليه الصلاة والسلام . وقيل : إن سليمان كان يفهم صوت الحيوانات كلها ، وإنما خصَّ الطير لأنه معظم جنده . ثم قال : { وأُوتينا من كل شيء } أي : ما نحتاج إليه . والمراد به كثرة ما أُوتي ، كما تقول : فلان يقصده كل أحد ، ويعلم كل شيء ، كناية عن كثرة علمه . { إنَّ هذا لهو الفضلُ } والإحسان من الله تعالى { المبين } أي : الواضح ، الذي لا يخفى على أحد ، أو : إن هذا الفضل الذي أوتيته هو الفضل المبين . على أنه عليه السلام قاله على سبيل الشكر والمحمدة . كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلاَ فَخْرَ " أي : أقول هذا القول شكراً ، لا فخراً ، والنون في عُلمنا وأُوتينا نون الواحد المطاع ، وكان حينئذٍ ملكاً ، فكلم أهل طاعته على الحالة التي كان عليها ، وليس فيه تكبر ولا فخر لعصمة الأنبياء من ذلك . والله تعالى أعلم . الإشارة : أشرف العلوم وأعظمها وأعزها العلم بالله ، على سبيل الذوق والكشف والوجدان ، ولا يكون إلا من طريق التربية على يد شيخ كامل لأنه إذا حصل هذا العلم أغنى عن العلوم كلها ، وصغرت في جانبه ، حتى إن صاحب العلم بالله يعد الاشتغال بطلب علم الرسوم بطالة وانحطاطاً ، ومَثَله كمن عنده قناطير من الفضة ، ثم وجد جبلاً من الإكسير ، فهل يلتفت صاحبُ الإكسير إلى الفضة أو الفلوس ؟ لأن من كانت أوقاته كلها مشاهدة ونظراً لوجه الملك ، كيف يلتفت إلى شيء سواه ، ولذلك قال الجنيد رضي الله عنه : لو نعلم تحت أديم السماء أشرف من هذا العلم ، الذي نتكلم فيه مع أصحابنا ، لسعيت إليه . هـ . وقال شيخ شيوخنا ، سيدي عبد الرحمن العارف : كنت أعرف أربعة عشر علماً ، فما أدركت علم الحقيقة ، سرطت ذلك كله ، ولم يبق إلا التفسير والحديث ، نتكلم فيه مع أصحابنا . أو قريباً من هذا الكلام . وقال شيخ شيوخنا ، سيدي عبد الرحمن المجذوب رضي الله عنه : @ أقارئينَ عِلْمَ التْوحِيد هُنا البُحُورُ إليَّ تنبي هَذا مَقامُ أهْل التجريدِ الواقِفِينَ مَع ربي @@ وهذا أمر بيِّن عند أهل هذا الفن ، وقال الورتجبي : العلم علمان : علم البيان وعلم العيان . علم البيان ما يكون بالوسائط الشرعية ، وعلم العيان مستفاد من الكشوفات الغيبية . ثم قال : فالعلم البياني معروف بين العموم ، والعلم العياني مشهور بين الخصوص ، لم يطلع عليه إلا نبي أو وَليّ ، لأنه صدر من الحق لأهل شهوده ، من المحبين العارفين والموحدين والصديقين ، والأنبياء والمرسلين ، انظر بقية كلامه . وقال أيضاً في قوله : { عُلِّمنا منطقَ الطير } : أفْهَم أن أصوات الطيور والوحوش وحركات الأكوان جميعاً هي خطابات من الله عز وجل للأنبياء والمرسلين ، والعارفين والصديقين ، يفهمونها من حيث أحوالهم ومقاماتهم . فللأنبياء والمرسلين علم بمناطقها قطعياً . ويمكن أن يقع ذلك بوحي ، لكن أكثر فهوم الأنبياء أنهم يفهمون من أصواتها ما يتعلق بحالهم ، بما يقع في قلوبهم من إلهام الله ، لا بأنهم يعرفون لغاتهم بعينها . هـ . قلت : وكذلك الأولياء يفهمون عنها ما يليق بمقاماتهم ، من ألفاظ ، أو أنس ، أو إعلام ، أو غير ذلك . والله تعالى أعلم . ولمّا أراد سليمان الغزو ، جمع جنوده ، كما قال تعالى : { وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ … }