Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 27, Ayat: 87-90)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جل جلاله : { و } اذكر { يومَ يُنفَخُ فِي الصُّور } ، وهو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل - عليه السلام - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لما فرغ الله تعالى من خلق السموات والأرض ، خلق الصور ، فأعطاه إسرافيل ، فهو واضعه على فيه ، شاخص بصره إلى العرش ، حتى يؤمر ، قال : قلت : كيف هو ؟ قال : عظيم ، والذي نفسي بيده إن أعظم دارة فيه كعرض السموات والأرض " وفي حديث آخر : " فيه ثقب بعدد كل روح مخلوقة ، فيأمر بالنفخ فيه ، فينخ نفخة ، لا يبقى عندها في الحياة أحد ، غير من شاء الله تعالى وذلك قوله تعالى : { وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ ٱللَّهُ } [ الزمر : 68 ] ، ثم يؤمر بأخرى ، فينفخ نفخة لا يبقى معها ميت إلا بُعث " وفي رواية : " فينفخ نفخة البعث ، فتخرج الأرواح ، كأنها النحل ، فتملأ ما بين السماء والأرض ، وتأتي كل روح إلى جسدها ، كما تأتي النحل إلى وكرها . وذلك قوله تعالى : { ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ } [ الزمر : 68 ] " . قال أبو السعود : والذي يستدعيه النظم الكريم أن المراد بالنفخ ها هنا : النفخة الثانية ، وفي الفزع في قوله تعالى : { ففزع من في السماوات ومن في الأرض } ما يعتري الكل عند البعث والنشور ، بمشاهدة الأمور الهائلة ، الخارقة للعادات في الأنفس والآفاق ، من الرعب والتهيب ، الضروريين ، الجبلين في كل نفس . وإيراد صيغة الماضي مع كون المعطوف عليه مضارعاً للدلالة على تحقيق وقوعه . هـ . وظاهره أن النفخ مرتان فقط ، واعتمده القرطبي وغيره ، وصحح ابن عطية أنها ثلاث ، ورُوي ذلك عن أبي هريرة : نفخة الفزع وهي فزع حياة الدنيا ، وليس بالفزع الأكبر ، ونفخة الصعق ، ونفخة القيام من القبور . وقوله : { إلا من شاء الله } أي : ألاَّ يفزع ، وهو من ثبّت الله قلبه ، فإن قلنا : المراد بها النفخة الثانية ، فالمستثنى : هم من سبقت لهم الحسنى ، بدليل قوله : { لاَ يَحْزُنُهُمُ ٱلْفَزَعُ ٱلأَكْبَرُ } [ الأنبياء : 103 ] وإن قلنا : هي نفخة الصعق ، فالمستثنى : قيل : هم جبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل ، وعزرائيل ، لكن يموتون بعد صعق الخلق . وقيل : الحور وحَملةُ العرش ، وإن قلنا : المراد نفخة الفزع في الدنيا ، فالمستثنى : أرواح الأنبياء والأولياء والشهداء والملائكة . ثم قال تعالى : { وكلٌّ أَتَوْهُ } بصيغة الماضي ، أي : وكل واحد من المبعوثين عند النفخة حضروه في موقف الحساب ، بين يدي الله جل جلاله ، والسؤال والجواب : أو : وكل حاضروه ، على قراءة إسم الفاعل ، وأصله : آتيوه ، حال كونهم { داخرين } : صاغرين أذلاء . { وترى الجبالَ } حال الدنيا { تحسبُها جامدةً } واقفة ممسّكة عن الحركة ، من : جمد في مكانه : إذا لم يبرح . { وهي تمرُّ مرَّ السحابِ } أي : مراً مثل مر السحاب ، التي تسيرها الرياح ، سيراً حثيثاً ، والمعنى : أنك إذا رأيت الجبال وقت النفخة ظننتها ثابتة في مكان واحد لِعظمها ، وهي تسير سيراً سريعاً ، كالحساب إذا ضربته الرياح ، وهكذا الأجرام العظام ، إذا تحركت لا تكاد تتبين حركتها . ومثال ذلك : الشمس لعظم جرمها وبُعدها لا تتبين حركتها ، مع كونها أسرع من الريح . والذي في حديث أبي هريرة : أنَّ تسيير الجبال يكون بعد نفخة الفزع وقبل الصعق . ونص الحديث - بعد كلام تقدم : " فيأمر إسرافيل بالنفخة الأولى ، فيقول : انفخ نفخة الفزع ، فيفزع أهل السموات والأرض ، إلا من شاء الله ، فيأمره فيمدها - أي : النفخة - ويطيلها ، فيُسير الله الجبالا ، فتمر مر السحاب ، فتكون سراباً ، وتَرْتج الأرض بأهلها رجاً ، فتكون كالسفينة تضربها الأمواج ، وتقلبها الرياح وهو في قوله : { يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ } [ النازعات : 6 ] الآية ، فتميد الأرض بالناس على ظهرها فتذهل المراضع ، وتضع الحوامل ، وتشيب الولدان ، وتطير الشياطين ، هاربة من الفزع ، حتى تأتي الأقطار هاربة ، فتلقاها الملائكة تضرب وجهها وأدبارها ، فترجع ، ويولي الناس مدبرين ، ينادي بعضهم بعضاً ، وهو قوله : { يَوْمَ ٱلتَّنَادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ … } [ غافر : 33 ] الآية فبينما هم كذلك إذ تصدعت الأرض ، من قطر إلى قطر ، فرأوا أمراً عظيماً ، لم يروا مثله " ثم قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " والأموات يومئذٍ لا يعلمون بشيء من ذلك " قال أبو هريرة : قلت : يا رسول الله فمن استثنى الله من الفزع ؟ قال : " أولئك الشهداء " . قلت : ومثلهم الأنبياء والأولياء إذ هم أعظم منهم ، وأحياء مثلهم . ثم قال عليه الصلاة والسلام : " وإنما يصل الفزع إلى الأحياء ، وهم أحياء عند ربهم يُرزقون ، وقاهم الله فزع ذلك اليوم ، وهو عذاب يبعثه الله على شرار خلقه " . وهو قوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ ٱلسَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ } [ الحج : 1 ] إلى قوله : { وَلَـٰكِنَّ عَذَابَ ٱللَّهِ شَدِيدٌ } [ الحج : 2 ] فيمكثون طويلاً ، ثم يأمر الله تعالى إسرافيل ، فينفخ نفخة الصعق ، فيصعق من في السموات ، ومن في الأرض ، إلا من شاء الله ، فإذا اجتمعوا في البرزخ ، جاء ملك الموت إلى الجبار ، فيقول : قد مات أهلُ السموات والأرض ، إلا من شاء الله ، فإذا اجتمعوا في البرزخ جاء ملك الموت إلى الجبار فيقول : قد مات أهل السموات والأرض إلا من شئتَ فيقول الله تعالى ، وهو أعلم : مَن بقي ؟ فيقول : بقيتَ أنت الحي القيوم ، الذي لا تموت ، وبقيت حملة العرش ، وبقي جبريل وميكائيل ، وإسرافيل وبقيتُ أنا ، فيقول تعالى : فليمتْ جبريل وميكائيل ، فينطق الله العرش ، فيقول : أيّ رب يموت جبريل ، وميكائيل ! فيقول : اسكت ، إني كتبت الموت على كل من تحت عرشي ، فيموتان . ثم يأتي ملك الموتُ الجبارَ ، فيقول : أي رب قد مات جبريل وميكائيل ، فيقول - وهو أعلم : من بقي ؟ بقيتَ أنت الحي الذي لا تموت ، وبقيت حملة العرش ، وبقي إسرافيل ، وبقيتُ أنا . فيقول : ليمتْ حملة العرش ، فيموتون ، فيأمر الله العرش فيقبض الصور من إسرافيل ، ثم يقول : ليمت إسرافيل ، فيموت ، ثم يأتي ملك الموت فيقول : يا رب قد مات حملة عرشك ، فيقول ، وهو أعلم : من بقي ؟ فيقول : بقيتَ أنت الحي الذي لا تموت ، وبقيت أنا ، فيقول : أنت خلق من خلقي ، خلقتك لِما رأيتَ ، فمتْ ، فيموت . فإذا لم يبق إلا الله الواحد الأحد الصمد ، الذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفواً أحد ، فكان آخراً ، كما كان أولاً ، طوى السماء طي السجل للكتاب ، فيقول : أنا الجبار ، { لِمن الملك اليوم } ؟ فلا يجيبه أحد ، ثم يقول تعالى : { لله الواحد القهار } ثم تُبدل الأرض غير الأرض ، والسموات يبسطها بسطاً ، ثم يمدها مدّ الأديم العكاظي ، لا ترى فيها عِوَجاً ولا أمتاً . ثم قال : ثم ينزل ماء من تحت العرش ، كمني الرجل ، ثم يأمر الله السحاب أن تمطر أربعين يوماً ، حتى يكون فوقهم اثني عشر ذراعاً ، ويأمر الله تعالى الأجساد أن تنبت كنبات البقل ، حتى إذا تكاملت أجسادهم ، كما كانت ، قال الله تعالى : ليحيَى حملة العرش ، فيحيون ، ثم يقول الله تعالى : ليحيى جبريل وميكائيل وإسرافيل ، فيحيون ، ثم يأمر الله تعالى إسرافيل ، فيأخذ الصور فيضعه على فيه ، ثم يدعو الله تعالى الأرواح ، فيؤتى بها تتوهج أرواح المؤمنين نوراً ، والأخرى ظلمة ، فيقبضها ، ثم يلقيها في الصور ، ثم يأمر الله تعالى إسرافيل أن ينفخ نفخة البعث ، فتخرج الأرواح ، كأنها النحل ، وقد ملأت ما بين السماء والأرض ، فيقول تعالى : لترجعن كل روح إلى جسدها ، فتدخل الأرواح الخياشيم ، ثم تمشي في الأجساد ، مشي السم في اللديغ ، ثم تنشق الأرض عنهم سراعاً ، فأنا أول من تنشق عنه ، فتخرجون منها إلى ربكم تنسلون ، عراةً ، حفاةً ، غُرلاً ، مهطعين إلى الداعي ، فيقول الكافر : هذا يوم عسير . نقله الثعلبي . ثم قال تعالى : { صُنعَ الله } ، هو مصدر مؤكد لمضمون ما قبله ، أي : صَنَعَ الله ذلك صُنعاً ، على أنه عبارة عما ذكر من النفخ في الصور ، وما ترتب عليه جميعاً . قصد به التنبيه على عِظَم شأن تلك الأفاعيل ، وتهويل أمرها ، والإيذان بأنها ليست بطريق الإخلال بنظم العالم ، وإفساد أحوال الكائنات ، من غير أن تدعو إليه داعية ، بل هي من بدائع صنع الله تعالى ، المبنية على أساس الحكمة ، المستتبعة للغايات الجليلة ، التي لأجلها رتبت مقدمات الخلق ومبادئ الإبداع ، على الوجه المتين ، والنهج الرصين كما يعرب عنه قوله : { الذي أتقنَ كلَّ شيء } أي : أحكم خلقه وسوّاه ، على ما تقتضيه الحكمة . وقوله تعالى : { إنه خبير بما تفعلون } : تعليل لكون ما ذكر صنعاً محكماً له تعالى لبيان أن علمه بظواهر أفعال المكلفين وبواطنها ، مما يدعو إلى إظهارها وبيان كيفياتها ، على ما هي عليه من الحسن والسوء ، وترتيب أجزيتها عليها بعد بعثهم وحشرهم . وقوله تعالى : { من جاء بالحسنةِ فله خير منها } : بيان لما أشير إليه بإحاطة علمه تعالى بأفعالهم من ترتيب أجزيتها عليها ، أي : من جاء من أولئك الذين أتوه بالحسنة فله خير منها ، باعتبار أنه أضعفها بعشر ، أو : باعتبار دوامه وانقضائها ، وعن ابن عباس رضي الله عنه : " الحسنة : كلمة الشهادة " { وهم } أي : الذين جاؤوا بالحسنات { من فزَعٍ يومئذ } أي : من فزع هائل ، وهو الفزع الحاصل من مشاهدة العذاب ، بعد تمام المحاسبة ، وظهور الحسنات والسيئات . وهو المراد في قوله تعالى : { لاَ يَحْزُنُهُمُ ٱلْفَزَعُ ٱلأَكْبَرُ } [ الأنبياء : 103 ] . وقال ابن جريج : حين يُذبح الموت ويُنادى : يا أهل الجنة خلود لا موت ، ويا أهل النار خلود لا موت . فيكون هؤلاء { من فزع يومئذٍ } ، أي : يوم إذ ينفخ في الصور وما بعده { آمنون } لا يعتريهم ذلك الفزع الهائل ، ولا يلحقهم ضرره أصلاً . وأما الفزع الذي يعتري كل من السموات ومن في الأرض ، غير ما استثناه اله تعالى ، فإنما هو التهيب والرعب الحاصل في ابتداء النفخة ، من معاينة فنون الدواهي والأهوال ، ولا يكاد يخلو منه أحد بحكم الجبلة ، وإن كان آمناً من لحوق الضرر . قال جميعه أبو السعود . { ومن جاء بالسيئة } قيل : هو الشرك . { فكُبَّتْ وجُوهُهُم في النار } ، أي : كُبوا فيها على وجوههم منكوسين . ويقال لهم : { هل تُجزَون إلا ما كنتم تعملون } في الدنيا من الشرك والمعاصي . والله تعالى أعلم . الإشارة : من أراد أن يكون ممن استثنى الله من الفزع والهول ، فليكن قلبه معموراً بالله ، ليس فيه غير مولاه ، ولا مقصود له في الدارين إلا الله ، وظاهره معموراً بطاعة الله ، متمسكاً بسنة رسول الله ، هواه تابع لِما جاء من عند الله ، لا شهوة له إلا ما يقضي عليه مولاه ، فبهذا ينخرط في سلك أولياء الله ، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، والذين سبقت لهم الحسنى ، لا يحزنهم الفزع الأكبر ، وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون . جعلنا الله من خواصهم ، بمنِّه وكرمه آمين . وقوله تعالى : { وترى الجبالَ تحسَبها جامدةً … } الآية . كذلك قلوب الراسخين في العلم بالله ، لا تؤثر فيهم هواجم الأحوال والواردات الإلهية ، بل تهزهم في الباطن ، وظواهرهم ساكنة ، كالجبال الراسية ، قيل للجنيد : قد كنت تتواجدُ عند السماع ، والآن لا يتحرك فيك شيء ؟ فتلى : { وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب } . وقوله تعالى : { من جاء بالحسنة } أي : بالخصلة الحسنة ، وهي المعرفة { فله خير منها } وهو دوام النظرة والحبرة ، في مقعد صدق عند مليك مقتدر ، { ومن جاء بالسيئة } هي الجهل بالله ، فينكس وجهه عن مواجهة المقربين . والعياذ بالله . ولمّا بلّغ الرسول صلى الله عليه وسلم ما أمره الله من بيان عواقب الأمور ، تبرأ منهم ، فقال : { إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ … }