Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 28, Ayat: 22-24)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جل جلاله : { ولما توجَّه } موسى { تلقاءَ مَدْينَ } نحوها وجهتها . ومدين : قرية شعيب ، سُميت بمدين بن إبراهيم ، كما سميت المدائن باسم أخيه مدائن ، ويقال له أيضاً : " مدان بن إبراهيم " ، ولم تكن مدين في سلطان فرعون ، وبينها وبين مصر مسيرة ثمانية أيام ، ولعله إنما لم يتسلط عليها لِمَا وصله من خبر إهلاك أهلها لما طغوا على أنبيائهم ، فخاف على نفسه . قال ابن عباس : خرج موسى ، ولم يكن له علم بالطريق إلا حسن الظن بربه . { قال عسى ربي أن يهديني سواءَ السبيل } أي : وسطه ونهجه . فلما خرج ، عَرَض له ثَلاَثُ طرق ، فأخذ في أوسطها ، وجاء الطلاب عَقِبَهُ ، فأخذوا في الآخَرَيْنِ . رُوي أن مَلكاً جاءه على فرس بيده عَنَزَة ، فانطلق به إلى مدين . ورُوي أنه خرج بلا زاد ولا درهم ، ولا ظهر ، ولا حِذاء - أي : نعل - ، ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر ، فما بلغ مدين حتى وقع خُفُّ قَدَمِهِ ، وخضرة البقل ترى على بطنه . { ولما وَرَدَ } وصل { ماء مدين } بئراً لهم ، { وجد عليه } على جانب البئر { أُمّةً } جماعة كثيرة { من الناس } من أناس مختلفين { يسقون } مواشيهم ، { ووجد من دونِهِمُ } في مكان أسفل من مكانهم { امرأتين تَذُودَان } : تطردان غَنَمَهُمَا عن الماء ، حتى تَصْدُرَ مواشي الناس ثم تسقيان لأن علىالماء من هو أقوى منهما ، فلا يتمكنان من السقي . أو : لئلا تختلط أغنامهما بأغنامهم . والذود : الطرد والدفع . { قال } لهما موسى : { ما خطبُكما } : ما شأنكما لا تسقيان ؟ والأصل : ما مخطوبكما ، أي : مطلوبكما ، فسمي المطلوب خَطْباً ، { قالتا لا نسقي } غنمنا { حتى يُصْدِرَ الرّعَاءُ } ، أي : يصرفوا مواشيهم ، يقال : أصدر عن الماء وصدر ، والمضارع : يَصْدُر ويَصْدِر ، والرعاء : جمع راع ، كقائم وقيام ، والمعنى : لا نستطيع مزاحمة الرجال ، فإذا صدروا سقينا مواشينا ، { وأبُونا شيخ كبير } السن ، لا يمكنه سقي الأغنام وهو شعيب بن نويْب بن مدين بن إبراهيم - عليهما السلام - وقيل : هو " يثرون " ابن أخي شعيب ، وكان شعيب قد مات بعدما كفَّ بَصَرُهُ ، ودفن بين المقام وزمزم . والأول أصح وأشهر . { فسقى لهما } أي : فسقى غنمهما لأجلهما رغبة في المعروف وإغاثة الملهوف ، رُوي أنه نحى القوم عن رأس البئر ، وسألهم دلواً ، فأعطوه دلوهم ، وقالوا : استق به ، وكانت لا ينزعها إلا أربعون ، فاستقى بها ، وصبَها في الحوض ، ودعا بالبركة . وقيل : كانت آبارهم مغطاة بحجار كبار ، فعمد إلى بئر ، وكان حجرها لا يرفع إلا جماعة ، فرفعه وسقى للمرأتين . ووجه مطابقة جوابهما سؤاله : أنه سألهما عن سبب الذود ، فقالتا : السبب في ذلك أن امرأتان مستورتان ضعيفتان ، لا نقدر على مزاحمة الرجال ، ونستحي من الاختلاط بهم ، فلا بد لنا من تأخير السقي إلى أن يفرغوا . وإنما رضي شعيب عليه السلام لابنيته بسقي الماشية لأن الأمر في نفسه مباح مع حصول الأمن ، وأما المروءة فعادات الناس فيها متباينة ، وأحوال العرب فيها خلاف أحوال العجم ، ومذهب أهل البدو فيه غير مذهب أهل الحضر ، خصوصاً إذا كانت الضرورة . قاله النسفي . قلت : وقد كنت أعترض على أهل الجبل رَعْيَ النِّساءِ المواشي حتى تذكرت قضية ابنتي شعيب ، لكن السلامة في زماننا هذا حبس النساء في الديار لكثرة أهل الفساد . { ثم } لما سقى لهما { تولى إلى الظل } ظل شجرة . عن عمرو بن ميمون ، عن عبد الله قال : أحييت ليلتين على جمل لي ، حتى صبّحْت مدين ، فسالت عن الشجرة التي أوى إليها موسى ، فإذا هي شجرة خضراء ، فأخذ جملي يأكل منها ثم لفظها . هـ . وفي الآية دليل على جواز الاستراحة والاستظلال في الدنيا ، بخلاف ما يقوله بعض المتقشفة ، وسيأتي في الإشارة تمامه إن شاء الله . ثم بث شكواه لمولاه { فقال ربِّ إِني لِمَا أنزلتَ إليَّ من خيرٍ } قليل أو كثير { فقير } محتاج . قال ابن عباس : لقد قال ذلك وإن خضراء البقل لتتراءى في بطنه ، من الهزال . قيل : لم يذق طعاماً منذ سبعة أيام ، وقد لصق بظهره بَطْنُهُ ، وما سأل الله تعالى الأكلة . وفي هذا تنبيه على هوان الدنيا على الله تعالى . وقال ابن عطاء : نظر من العبودية إلى الربوبية ، وتكلم بلسان الافتقار ، لما ورد على سره من الأنوار . هـ . الإشارة : ولما توجه القلبُ تلقاء مَدْيَنِ المآرب ، ومنتهى الرغائب - وهي الحضرة القدسية - قال : عسى ربي أن يهديني سواء السبيل ، أي : وسط الطريق التي توصل إليها ، وهو شيخ التربية . ولَمَّا ورد مناهله ، ومحلَ شربه وجد عليه أمة من الناس يسقون قلوبهم من شراب تلكَ الخمرة ، ويطلبون مثل ما يطلب ، فإن كان قوياً في حاله وصل من كان ضعيفاً وسقى له ، ثم نزل إلى ظل المعرفة ، في نسيم برد الرضا والتسليم ، قائلاً ، بلسان التضرع ، سائلاً من الله المزيد : ربِّ إني لما أنزلت إليّ من خير الدارين ، وغنى الأبد ، فقير محتاج إلى مزيد الفضل والكرم . وقال في لطائف المنن : { ثم تولى إلى الظل } قصداً لشكر الله تعالى على ما ناله من النعمة - يعني : نعمة الظل الحسي - وجعله أصلاً في استعمال الطيبات ، وتناولها بقصد الشكر ، ومثله في التنوير . وفي سنن أبي داود عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : " كان صلى الله عليه وسلم يُسْتعذب له الماء من بُيوت السُّقيا " ، قال ابن قتيبة : هي عَيْنٌ ، بينها وبين المدينة يومان . هـ . وكان الشيخ ابن مشيش يقول لأبي الحسن رضي الله عنه : يا أبا الحسن ، بَرِّد الماءَ فإن النفس إذا شربت الماء البارد حمدت الله بجميع الجوارح ، وإذا شربت الماء السخن حمدت الله بكزازة . ثم ذكر اتصاله بشعيب ، فقال : { فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي … }