Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 28, Ayat: 25-28)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : تمشي : حال من إحداهما ، و على استحياء : حال من ضمير تمشي ، أي : تمشي مستحيية . والقصص : مصدر ، سُمِّيَ به المقصوص . يقول الحق جل جلاله : { فجاءته إحداهما } وهي التي تزوجها ، وذلك أنه لما سقى لهما رجعا إلى أبيهما بغنمها بِطاناً حُفَّلاً ، فقال لهما : ما أعجلكما ؟ فقالتا له : وجدنا رجلاً صالحاً رحمنا فسقى لنا أغنامنا ، فقال لإحداهما : أدعيه ، فجاءته { تمشي على استحياء } قد سترت وجهها بكفها ، واستترت بكُمِّ درعها . وهذا دليل على كمال إيمانها وشرف عنصرها لأنها كانت تدعوه إلى ضيافتها ، ولم تعلم أيجيبها أم لا ؟ فقالت : { إن أبي يدعوك ليجزيك أجرَ ما سَقيت لنا } ، " ما " مصدرية ، أي : أجر سُقْيَاك لنا ، فتبعها موسى ، فألزقت الريح ثوبها بجسدها ، فوصفته ، فقال لها : امشي خلفي ، وانعتي الطريق ، فإننا بَني يعقوب ، لا ننظر إلى أعجاز النساء . { فلما جاءه وقصَّ عليه القَصص } ، أي : قصته وأحواله مع فرعون ، وكيف أراد قَتْلَهُ ، { قال } له : { لا تخفْ نجوتَ من القوم الظالمين } فرعون وقومه إذ لا سلطان له على أرضنا - مدين - ، أو : قَبِلَ الله دعاءك في قولك : { رب نجني من القوم الظالمين } . وفيه دليل على العمل بخير الواحد ، ولو أنثى ، والمشي مع أجنبية على ذلك الاحتياط والتورع . قاله النسفي . وفيه نظر لعصمة الأنبياء - عليهم السلام - ، وما أخذ الأجر على البر والمعروف فقيل : لا بأس به عند الحاجة ، كما كان لموسى عليه السلام ، على أنه رُوي أنه لمّا قالت له : { ليجزيك } كره ذلك . وإنما أجابها لئلا يخيب قصدها لأن للقاصد حرمة . ولما وضع شعيب الطعام بين يديه امتنع ، فقال شعيب : ألست جائعاً ؟ فقال : بلى ، ولكن أخاف أن يكون عوضاً مما سَقَيْتُ لهما ، وإنا أهل بيت لا نبيع ديننا بالدنيا ، ولا نأخذ على المعروف شيئاً ، فقال شعيب : هذه عادتنا مع كل من ينزل بنا ، فأكل . { قالت إحداهما يا أبَتِ استأجرْهُ } ، أي : اتخذه أجيراً لرعي الغنم . رُوي أن كبراهما كانت تسمى : " صفراء " ، والصغرى : " صفيراء " ، وقيل : " صابورة " و " ليا " . وصفراء هي التي ذهبت به ، وطلبت إلى أبيها أن يستأجره ، وهي التي تزوجها . قاله وهب بن منبه وغيره فانظره مع ما في حديث ، قال صلى الله عليه وسلم : " تزوج صغراهما ، وقضى أوفاهما " ويمكن الجمع بأن يكون زوّجه إحداهما ثم نقله إلى الأخرى . ثم قالت التي طلبت استئجاره : { إن خيرَ من استأجرت القويُّ الأمين } ، فقال : ما أَعْلَمَكِ بقوته وأمانته ؟ فذكرت نزع الدلو ، أو رفع الحجر عن البئر ، وأمْرها بالمشي خلفه . وفي رواية عند الثعلبي . أما قوته : فإنه عمد إلى صخرة لا يرفعها إلا أربعون رجلاً ، فرفعها عن فم البئر . ثم ذكرتْ أمر الطريق . وقولها : { إنَّ خيرَ من استأجرت … } إلخ : كلام جامع لأنه إذا اجتمعت هاتان الخصلتان الكفاية والأمانة ، في القائم بأمرك ، فقد فرغ بالك وتم مرادك . وقيل : القوي في دينه ، الأمين في جوارحه . وقد استغنت بهذا الكلام ، الجاري مجرى المثل ، عن أن تقول : استأجره لقوته وأمانته . وعن ابن مسعود رضي الله عنه : أفرس الناس ثلاثة : بنت شعيب ، وصاحب يوسف في قوله : { عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَآ } [ يوسف : 21 ] ، وأبو بكر في استخلافه عمر . { قال } شعيب لموسى - عليهما السلام - : { إني أُريد أن أُنكِحَك } : أُزوجك { إحدىَ ابنتي هاتينِ } ، وقوله : { هاتين } يدل على أن له غيرهما . وهذه مواعدة منه ، لا عقد ، وإلا لقال : أنكحتك . { على أن تأجُرَنِي } أي : تكون أجيراً لي ، من أجرته : إذا كنت له أجيراً { ثمانِيَ حِجَجٍ } سنين والحجة : السنة . والتزوج على رعي الغنم جائز في شرعنا ، على خلاف في مذهبنا . { فإِن أتممتَ عشراً } أي : عشر حجج { فمن عندك } أي : فلذلك تفضلٌ منك ، ليس بواجب عليك ، أو : فإتمامه من عندك ، ولا أحتمه عليك . { وما أريد أن أشق عليك } بإلزام أتم الأجلين . من المشقة ، { ستجدني إن شاء الله من الصالحين } في حسن المعاملة ، والوفاء بالعهد ، أو مطلقاً . وعلق بالمشيئة ، مراعاة لحسن الأدب مع الربوبية . { قال } موسى عليه السلام : { ذلك } العهد وعقد الأجرة { بيني وبينك } أي : ذلك الذي قُلْتَهُ ، وشارطتني عليه ، قائم بيننا جميعاً ، لا يخرج واحد منا عنه . ثم قال : { أيَّما الأجلين قضيتُ } أي : أيُّ الأجلين قضيت من الأجلين : العشر أو الثماني ، { فلا عدوان عَلَيّ } أي : لا يتعدى عليّ في طلب الزيادة عليه ، قال المبرد : قد علم أنه لا عدوان عليه في إتمامهما ، ولكن جمعهما ليجعل الأقل كالأتم في الوفاء ، وكما أن طلب الزيادة على الأتم عدوان فلذلك طلب الزيادة على الأقل . { والله على ما نقول وكيل } أي : رقيب وشهيد . واختلف العلماء في وجوب الإشهاد في النكاح على قولين : أحدهما : أنه لا ينعقد إلا بشاهدين ، وبه قال أبو حنيفة والشافعي ، وقال مالك : ينعقد بدون شهود لأنه عَقْدُ معاوضة ، فلا يشترط فيه الإشهاد ، وإنما يشترط فيه الإعلان ، والإظهار بالدف والدخان ليتميز من السفاح ، ويجب عند الدخول . رُوي أن شعيباً كانت عنده عصِيّ الأنبياء - عليهم السلام - ، فقال لموسى بالليل : ادخل ذلك البيت فخذ عصاً من تلك العصي ، فأخذ عصا هبط بها آدم من الجنة ، ولم يزل الأنبياء - عليهم السلام - يتوارثونها ، حتى وقعت إلى شعيب ، فلما أخذها ، قال له شعيب : ردها وخذ غيرها ، فما وقع في يده إلا هي سبع مرات . - وفي رواية السدي : أمر ابنته أن تأتيه بعصا فجاءته بها ، فلما رآها الشيخ قال : آتيه بغيرها ، فألقتها لتأخذ غيرها ، فلا تصير في يده إلا هي ، مراراً ، فرفعتها إليه ، فعلم أن له شأناً . ولما أصبح قال له شعيب : إذا بلغتَ مفرق الطريق فلا تأخذ على يمينك ، فإن الكلأ ، وإن كان بها أكثر ، إلا أن فيها تنيناً ، أخشاه عليك وعلى الغنم ، فأخذت الغنم ذات اليمين ولم يقدر على كفها ، فمشى على أثرها ، فإذا عشب وريف لم ير مثله ، فنام ، فإذا التنين قد أقبل ، فحاربته العصا حتى قتلته ، وعادت إلى جنب موسى دامي ، فلما أبصرها دامية ، والتنينَ مقتولاً ارتاح لذلك . ولما رجع إلى شعيب بالغنم فوجدها ملأى البطون غزيرة اللبن ، وأخبره موسى ، فرح ، وعلم أن لموسى شأناً ، وقال له : إني وهبت لك من نتاج غنمي ، هذا العام ، كُلَّ أَدْرَعَ وَدَرْعَاءَ - أي : كل جدي أبلق ، وأثنى بلقاء - فأوحى الله تعالى إلى موسى في المنام : أن اضرب بعصاك الماء الذي تسقى منه الغنم ، فضرب ، ثم سقى الأغنام ، فوضعت كلها بلقاء ، فسلمها شعيب إليه . وذكر الإمام اللجائي في كتابه قطب العارفين : أن موسى عليه السلام انتهى ، ذات يوم ، بأغنامه إلى واد كثير الذئاب ، وكان قد بلغ به التعب ، فبقي متحيراً ، إن اشتغل بحفْظ الغنم عجز عن ذلك لغلبة النوم عليه والتعب ، وإن هو طلب الراحة ، وثبَت الذئابُ على الغنم ، فرمى السماء بطرفه ، وقال : إلهي إنه أحاط علمك ، ونفذت إرادتك ، وسبق تقديرك ، ثم وضع رأسه ونام . فلما استيقظ وجد ذئباً واضعاً عصاه على عاتقه ، وهو يرعى الغنم ، فتعجب موسى من ذلك ، فأوحى الله إليه : يا موسى كن لي كما أريد ، أكن لك كما تريد . قال : فهذه إشارة تدل على أن : مَنْ هَرَبَ مِنَ الله إلى الله كفاه الله ، عز وجل ، مَنْ دُونَهُ . هـ . والله تعالى أعلم . الإشارة : فجاءته - أي : القلب - إحدى الخصلتين الفناء والبقاء ، تمشي على مهل وقدر فإن الوصول إلى المقامات إنما يكون بتدريج ، على حسب القَدَر السابق . قالت إحدى الخصلتين : إن ربي يدعوك إلى حضرته ليجزيك أجر ما سقيت ، واستعملت في جانب الوصول إلينا . فلما جاءه ، أي : وصل إليه ، وتمكن منه ، وقص عليه القصص ، وهو ما جرى له مع نفسه وجنودها من المجاهدات والمكابدات ، قال : لا تخف اليوم ، حين وصلت إلينا ، نجوت من القوم الظالمين ، قالت إحداهما : يا رب استأجره في العبودية شكراً ، إن خير من استأجرت القوي الأمين لأن عمله بالله ، محفوفاً برعاية الله ، قال : إني أريد أن أعطيك إحدى الخصلتين ، إما الإقامة في الفناء المستغرِق ، أو الرجوع إلى البقاء المستفيق ، لتقوم بالأدب على ان تخدم ثماني حجج ، فإن أتممت عشراً ، لزيادة التمكين ، فمن عندك ، فأقل خدمة المريد للشيخ ثماني سنين ، ونهايتها نهاية التمكين . قال الورتجبي : لأن شعيباً ، عليه السلام رأى بنور النبوة أن موسى عليه السلام يبلغ درجة الكمال في ثماني حجج ، ولا يحتاج إلى التربية بعد ذلك ، ورأى أن كمال الكمال في عشر حجج لأنه رأى أن بعد العشرة لا يبقى مقام الإرادة ، ويكون بعد ذلك حراً ، ولذلك قال : وما أريد أن أشق عليك . هـ . ثم ذكر رجوع موسى إلى مصر ، فقال : { فَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى ٱلأَجَلَ … }