Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 28, Ayat: 29-32)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جل جلاله : { فلما قضى موسى الأجلَ } ، قال صلى الله عليه وسلم : " قضى أبعدهما وأطيبهما " ، وفي رواية : " أبرهما وأوفاهما " { وسارَ بأهله } أي : امرأته ، نحو مصر ، قال مجاهد : ثم استأذن موسى أن يزور أهله بمصر ، فأذن له ، فسار بأهله إلى البَرِّيَّةِ ، فأوى إلى جانب الطور الغربي الأيمن ، في ليلة مظلمة شديدة البرد ، وكان أخذ على غير طريق ، يخاف ملوك الشام - قلت : ولعلهم كانوا من تحت يد قرعون - فأخذ امْرَأَتَهُ الطَّلقُ ، فقدح زنده ، فلم يور ، فآنس من جانب الطور ناراً . هـ . وقال ابن عطاء : لما تم أجل المحنة ، ودنت أيام الزلفة ، وظهرت أنوار النبوة ، سار بأهله ليشتركوا معه في لطائف صنع ربه . هـ . { آنس } أي : أبصر { من جانب الطُور } أي : من الجهة التي تِلْوَ الطورِ { ناراً قال لأهله امكثوا إني آنستُ ناراً لعلي آتيكم منها بخبر } عن الطريق لأنه كان ضل عنها ، { أو جذوة من النار } أي : قطعة وشُعلة منها ، والجُذوة - مثلثة الجيم : العُود الذي احترق بعضه ، وجمعه : " جِذّى " . { لعلكم تصطلون } تستدفئون بها . والاصطلاء على النار سُنَّة المتواضعين . وفي بعض الأخبار : " اصطلوا فإن الجبابرة لا يصطلون " . { فلما أتاها نُودي من شاطىء الوادِ الأيمنِ } بالنسبة إلى موسى ، أي : عين يمين موسى ، { في البقعة المباركةِ } بتكليم الله تعالى فيها ، { من الشجرة } بدل من " شاطىء " : بَدَلَ اشتمالٍ أي : من ناحية الشجرة ، وهو العنَّاب ، او العوسج ، أو : سمرة . وقال وهب : عُليقاً . { أن يا موسى } . أي : يا موسى ، أو : إنه يا موسى { إني أنا الله ربُّ العالمين } ، قال البيضاوي : هذا ، وإن خالف ما في " طه " و " النمل " لفظاً ، فهو طبْقُهُ في المقصود . هـ . قال جعفر الصادق : أبصر ناراً ، دلته على الأنوار لأنه رأى النور على هيئة النار ، فلما دنا منها شملته أنوار القدس ، وأحاطت به جلابيب الأنس ، فخاطبه الله بألطف خطاب ، واستدعى منه أحسن جواب ، فصار بذلك مُكَلَّماً شريفاً ، أُعْطِيَ ما سأل ، وأمن ممن خاف . هـ . قال القشيري : فكان موسى عند الشجرة ، والنداء من الله لا منها ، وقد حصل الإجماع أن موسى ، تلك الليلة ، سمع كلام الله ، ولو كان النداء من الشجرة لكانت المتكلمة هي ، فلأجل الإجماع قلنا : لم يكن النداء منها ، وإلا فنحن نجوز أن يخلق الله نداء في الشجرة . هـ . قلت : وسيأتي في الإشارة ما لأهل التوحيد الخاص ، وما قاله - هو مذهب أهل الظاهر . ثم قال تعالى : { وأن أَلْق عَصَاكَ } ، أي : نودي : أن ألق عصاك ، فألقاها ، فقلبها الله ثعباناً ، { فلما رآها تهتزُّ } تتحرك { كأنها جانٌّ } حية رقيقة . فإن قيل : كيف قال في موضع : كأنها جان ، وفي أخرى : { فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ } [ الأعراف : 143 ] ؟ قلت : هي في أول أمرها جان ، وفي آخر أمرها ثعبان لأنها كانت تصير حية على قدر العصا ، ثم لا تزال تنتفخ حتى تصير كالثعبان ، أو : يُريد في سرعة الجان وخفته ، وفي قوة الثعبان . فلما رآها كذلك { ولّى مُدْبِراً ولم يُعقِّبْ } ولم يرجع عقبه . فقيل له : { يا موسى أقبلْ ولا تخفْ إنك من الآمنين } ، أي : أمنت من أن ينالك مكروه من الحية . و { اسلكْ } : أَدْخِلْ { يدكَ في جَيْبِكَ } جيب قمصيك { تخرج بيضاءَ } لها شعاع كشعاع الشمس { من غير سُوءٍ } برص . { واضمم إليك جناحكَ من الرَّهْبِ } ، أي : الخوف ، فيه لغات : " الرُّهبُ " ، بفتحتين ، وبالفتح والسكون ، وبالضم معه ، وبضمتين . والمعنى : واضمم يدك إلى صدرك يذهب ما لحقك من الخوف لأجل الحية ، وعن ابن عباس رضي الله عنه : كل خائف ، إذا وضع يده على صدره ، ذهب خوفه . وقيل : المراد بضم يده إلى جناحه تجلده ، وضبطه نفسه عند انقلاب العصا حية ، حتى لا يضطرب ولا يرهب ، استعارة من فعل الطائر لأنه إذا خاف نشر جناحيه وأرخاهما . { فذانِك } أي : اليد والعصا ، ومن شدد فإحدى النونين عِوَضٌ من المحذوف ، { بُرهانان } أي : حجتان نيرتان . وسميت الحجة برهاناً لإنارتها ، من قولهم : بَره الشيء : إذا ابيض ، والمرأة بَرهَاءُ وَبرَهْرَهَةٌ : أي : بيضاء . { من ربك إلى فرعون وملئه } أي : أرسلناك إلى فرعون وقومه بهاتين الحجتين ، { إنهم كانوا قوماً فاسقين } : خارجين عن الحق ، كافرين بالله ورسوله . الإشارة : قد تقدم في سورة " طه " بعض إشارتها . ويؤخذ من الآية أن تزوج المريد ، بعد كمال تربيته ، كمال ، وأما قبل كماله : فإن كان بإذن شيخه فلا يضره . وربما يتربى له اليقين أكثر من غيره . وقوله تعالى : { وسار بأهله } قال الورتجبي : افهم أن مواقيت الأنبياء والأولياء وقت سير الأسرار من بدء الإرادة إلى عالم الأنوار . هـ . وقوله تعالى : { آنست ناراً } قال الورتجبي : الحكمة في ذلك : أن طبع الإنسانية يميل إلى الأشياء المعهودة ، لذلك تجلى النور في النار لاستئناسه بلباس الاستئناس ، ولا تخلوا النار من الاستئناس ، خاصة في الشتاء ، وكان شتاءً ، فتجلى الحق بالنور في لباس النار لأنه كان في طلب النار ، فأخذ الحق مراده ، وتجلى مِنْ حَيْثُ إِرَادَاته ، وهو سنة الله تعالى . هـ . وقوله تعالى : { من الشجرة } أي : نودي منها حقيقة إذ ليس في الوجود إلا تجليات الحق ومظاهره ، فيكلم عباده من حيث شاء منها . قال في العوارف : الصوفي لتجرده ، يشهد التالي كشجرة موسى ، حيث أسمعه الله خطابه منها ، بأني أنا الله لا إله إلا أنا . هـ . فأهل التوحيد الخاص لا يسمعون إلا من الله ، بلا واسطة ، قد سقطت الوسائط في حقهم ، حين غرقوا في بحر شهود الذات ، فافهم . وقال في القوت : كانت الشجرة وجهة موسى عليه السلام ، كلمة الله عز وجل منها ، كما قال بعضهم : إن قوله تعالى : { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ } [ الأعراف : 107 ، والشعراء : 32 ] ، أي : بالجبل ، كان الجبل من جهة الحس حجاباً لموسى ، كشفه الله عنه ، فتجلى به ، كما قال : { من الشجرة } فكانت الشجرة وجهة له عليه السلام هـ ، بإيضاح . والله تعالى أعلم . ثم ذكر اعتذار موسى وطلبه الإعانة بأخيه ، فقال : { قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ … }