Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 28, Ayat: 68-70)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جل جلاله : { وربك يخلقُ ما يشاءُ } ، لا موجب عليه ، ولا مانع له ، وفيه دلالة على خلق الأفعال . { ويختارُ } ما يشاء ، لا اختيار لأحد مع اختياره . قال البيضاوي : وظاهره : نفي الاختيار عنهم رأساً ، والأمر كذلك عند التحقيق فإنَّ اختبار العبد مخلوق لله ، منوط بدواعٍ لا اختيار لهم فيها ، وقيل : المراد أنه ليس لأحد أن يختار عليه ، فلذلك خلا عن العاطف ، يعني قوله : { ما كان … } إلخ ، ويؤيده : ما روي أنه نزل في قولهم : { لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] هـ . { ما كان لهم الخِيَرةُ } أي : ليس لهم أن يختاروا مع الله شيئاً ما ، وله الخيرة عليهم . والخيرة : من التخير ، تستعمل مصدراً بمعنى التخير ، وبمعنى المتخيّر ، ومنه : محمد خيرة الله من خلقه ، ولم يدخل العاطف في { ما كان لهم الخيرة } لأنه مقرر لِمَا قبله ، وقيل : " ما " : موصولة ، مفعول بيختار ، والراجع إليه : محذوف ، أي : ويختار الذي كان لهم من الخيرة والصلاح . هـ . وبحث فيه النسفي بأن فيه ميلاً إلى الاعتزال ، ويجاب : بأن المعتزلة يقولون ذلك على سبيل الإيجاب ، ونحن نقوله على سبيل التفضل والإحسان . { سبحان الله } ، أي : تنزيهاً له عن أن ينازعه أحد ، أو يزاحم اختيارَهُ اختيارٌ . { وتعالى عما يشركون } ، أي : تعاظم عن إشراكهم ، أو : عن مشاركة ما يُشركون به . { وربك يعلم ما تُكِنُّ } تُضمر { صدورُهم } من عداوة الرسول - عليه الصلاة والسلام - وحسده ، { وما يُعلنون } من مطاعنهم فيه ، وقولهم : هلاً اختير عليه غَيْرُهُ في النبوة . { وهو الله } المستأثر بالألوهية المختص بها ، { لا إله إلا هو } ، تقرير له ، كقولك : الكعبة قبلة ، لا قبلةَ إلا هي . { له الحمد في الأولى } أي : في الدنيا ، { والآخرة } لأنه المُولي للنعم كلها ، عاجلها وآجلها ، يحمده المؤمنون في الدنيا ، ويحمدونه في الآخرة بقولهم : { ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِيۤ أَذْهَبَ عَنَّا ٱلْحَزَنَ } [ فاطر : 34 ] ، { ٱلْحَـمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ } [ الزمر : 74 ] ، { وَقِيلَ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [ الزمر : 75 ] ، والتحميد تم على وجه التلذذ لا الكلفة . { وله الحُكم } القضاء بين عباده ، { وإليه تُرجعون } بالبعث والنشور . وبالله التوفيق . الإشارة : في الآية تحضيض على ترك التدبير والاختيار ، مع تدبير الواحد القهار ، وهو أصل كبير عند أهل التصوف ، أفرد بالتأليف ، وفي الحِكَم : " أراح نفسك من التدبير ، فما قام به غيرك عنك لا تقم به أنت عن نفسك " . وقال سهل رضي الله عنه : ذروا التدبير والاختيار ، فإنهما يكدران على الناس عيشهم . وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه : ذروا التدبير وإن كان ولا بد من التدبير ، فدبروا ألا تدبروا . هـ . والتدبير المذموم : هو ما فيه للنفس حظ ، كتدبير أسباب الدنيا ، وما تحصل بها من شهواتها ، إذا صحبه عزم أو تكرير ، وأمَّا ما كان فيما يقرب إلى الله تعالى فهو النية الصالحة ، أو لم يصحب تصميم بأن كان عَزْمه محلولاً ، أو علقة بمشيئة الله ، أو كان خاطراً غير ساكن ، فلا بأس به . قال القشيري - بعد كلام في وجه اختصاص التدبير بالحق تعالى : لأنه لو لم تنفذ مشيئته واختياره لم يكن بوصف العِزِّ لأن من نفى عن مراده لا يكون إلا ذليلاً ، والاختيارُ للحق نعتُ عز ، والاختيار للخلق صِفةُ نقصٍ ، ونعتُ ملام وقصور ، فاختيارُ العَبْدُ على غيرُ مُبَارَكٍ له ، لأنه صفة غيرُ مستحِقٍّ لها ، ومن اتصف بما لا يليق به افتضح ، قال قائلهم : @ ومعَانٍ إذا ادّعاها سواهم لَزِمَتْه جِنَايةُ السُّرَّاقِ @@ والطينةُ إذا ادَّعَت صفة للحقِّ أظهرت رعونتها ، فما للمختار والاختيار ؟ ! وما للمملوكِ والمِلْك ؟ ! وما للعبيد في دَسْتِ الملوك ؟ ! قال تعالى : { ما كان لهم الخيرة } . هـ . وقال آخر في هذا المعنى : @ العبدُ ذو ضَجَرٍ ، والربُّ ذو قُدَرٍ والدهرُ ذو دُوَلٍ ، والرزقُ مقسومُ والخيرُ أجمعُ : فيما اختار خالقنا وفي اختيارِ سواه : اللومُ والشُّومُ @@ فإذا علمت ، أيها العبد ، أن الحق تعالى هو الذي يخلق ما يشاء ويختار ، لم يبق لك مع الله اختيار ، فالحالة التي أقامك فيها هي التي تليق بك ، ولذلك قيل : العارف لا يعارض ما حلّ به ، فقراً كان أو غنى . قال اللجائي في كتاب قطب العارفين : الراضي شبه ميت ، لا نفس له ، يختار لها ، فالفقر والغنى حكمان من حكيم واحد ، وهو أعلم سبحانه بعبيده ، وما يصلحون به ، فمنهم من يصلح للفقر ولا يصلح للغنى ، ومنهم من يصلح للغنى ولا يصلح للفقر ، ومنهم من يصلح بالمنع ولايصلح بالعطاء ، ومنهم من يصلح بالعطاء ولا يصلح بالمنع ، ومنهم من يصلح بالبلاء ولا يصلح بالصحة ، ومنهم من يصلح بالصحة ولا يصلح بالبلاء ، ومنهم من يصلح بالوجهين جميعاً ، وهو أعلى رُتبة يشار إليها في غاية هذا الشأن ، { وربك يخلق ما يشاء ويختار … } الآية ، ففي هذه الآية كفاية وتعزية لكل سالك راض عن الله تعالى ، لكن لا يعقْلُها ولا يتلذذ بها إلا مشايخ العارفين . هـ . وبالله التوفيق . ثم برهن على انفراده بالخلق والاختيار ، فقال : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمُ … }