Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 29, Ayat: 45-45)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جل جلاله : { اتْلُ ما أُوحي إليك من الكتابِ } تَنَعُّماً بشهود أسرار معانيه ، وبشهود المتكلم به ، فتغيب عن كل ما سواه ، واستكشافاً لحقائقه ، فإن القارئ المتأمل قد ينكشف له بالتكرار ما لم ينكشف له أول ما قرع سمعه . وقد كان من السلف من يبقى في السورة يكررها أياماً ، وفي الآية يرددها ليلة وأكثر ، كلما رددها ظهر له معان أُخر . { وأَقِم الصلاةَ } أي : دم على إقامتها ، بإتقانها فعلاً وحضوراً وخشوعاً ، { إن الصلاةَ تنهى عن الفحشاء } الفعلة القبيحة كالزنى ، والشرب ، ونحوهما ، { والمنكرِ } ، وهو ما يُنكره الشرع والعقل . ولا شك أن الصلاة ، إذا صحبها الخشوع والهيبة في الباطن ، والإتقان في الظاهر ، نهت صاحبها عن المنكر ، لا محالة ، وإلا فلا . رُوي أن فتًى من الأنصار كان يصلي مع رسول الله الصلوات ، ولا يدع شيئاً من الفواحش إلا ركبه ، فَوُصِفَ حَالُهُ له صلى الله عليه وسلم فقال : " إن صلاته تنهاه " ، فلم يلبث أن تاب . هـ . وأما من كان يصليها فلم تنهه فهو دليل عدم قبولها ، ففي الحديث : " من لمْ تَنْهَهُ صَلاتُهُ عن الفحشاء والمنكر لم يَزْدَدْ من الله إلا بُعْداً " رواه الطبراني . وقال الحسن : من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فليست بصلاة ، وهي بال عليه . وقال ابن عوف : إن الصلاة تنهى إذا كنت فيها فأنت في معروف وطاعة ، وقد حجزتك عن الفحشاء والمنكر . هـ . فخص النهي بكونه ما دام فيها ، وعليه حَمَلَهُ المَحلِّي . قال المحشي : يعني : أن مِنْ شأنها ذلك ، وإن لم يحصل ذلك فلا تخرج عن كونها صلاة ، كما أن من شأن الإيمان التوكل ، وإن قدر أن أحداً من المؤمنين لا يتوكل فلا يخرج ذلك عن الإيمان . وقيل : الصلاة الحقيقية : ما تكون لصاحبها ناهيةً عن ذلك ، وإن لم ينته فالصلاةُ ناهيةٌ على معنى : ورود الزواجر على قلبه ، ولكنه أصر ولم يطع . ويقال : بل الصلاة الحقيقية ما تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر ، فإن كان ، وإلا فصورة الصلاة لا حقيقتها . انظر القيشيري . وقال ابن عطية : إذا وقعت على ما ينبغي من الخشوع ، والإخبات لذكر عظمة الله ، والوقوف بين يديه ، انتهى عن الفحشاء والمنكر ، وأما مَنْ كانت صلاته لا ذكر فيها ولا خشوع ، فتلك تترك صاحبها بمنزلته حيث كان . هـ . فائدة : ذكر في اللباب أن أول من صلى الصبح آدم عليه السلام ، لأنه لم يكن رأى ظلمة قط ، فلما نزل ، وجنَّه الليل خرّ مغشياً ، فلما أصبح ورأى النور صلى ركعتين ، شكراً . وأول من صلى الظهر إبراهيم ، لما فدى ولده ، وقد كان نزل به أربعة أهوال ، هم الذبح وهم الولد ، وهم والدته ، وهم مرضاة الرب ، فصلى أربع ركعات ، شكراً لله تعالى . وأول من صلى العصر سليمان عليه السلام ، لمَّا رد الله عليه ملكه . وأول من صلى المغرب عيسى عليه السلام ، كفارة عما اعتقد فيه من أنه ثالث ثلاثة . وأول من صلى العشاء يونس عليه السلام ، ولعله هذا الوقت الذي نُبذ فيه بالعراء . وأول من توضأ آدم كفارة لأكله . هـ . مختصراً بزيادة بيان . وجمعها الحق تعالى لهذه الأمة المحمدية لتحوز فضائل تلك الشرائع لأنه صلى الله عليه وسلم جَامِعٌ لِمَا افْتَرَقَ في غيره . ثم قال تعالى { ولذكرُ الله أكبرُ } ، أي : ولذكر الله ، على الدوام ، أكبر ، في النهي من الفحشاء والمنكر ، من الصلاة لأنها في بعض الأوقات . فالجزء الذي في الصلاة ينهى عن الفحشاء الظاهرة ، والباقي ينهى عن الفحشاء الباطنة ، وهو أعظم ، ولأن الانتهاء لا يكون إلا من ذاكرٍ لله ، مراقبٍ له ، وثواب ذلك الذكر أن يذكر الله تعالى لقوله : { فَٱذْكُرُونِيۤ أَذْكُرْكُمْ } [ البقرة : 152 ] . ومن ذَكَرَه حَفِظَهُ ورعاه . أو : لذكر الله أكبر أجراً ، من الصلاة ، ومن سائر الطاعات ، كما في الحديث : " ألا أنبئكم بخيرِ أعمالكمْ ، وأزكْاهَا عند مليككم ، وأرفَعِهَا في درجاتكم ، وخيرٍ لكم من إنفاق الذهب والوَرِق ، وخيرٍ لكم من أن تَلْقَوْا عدوكم فتضربُوا أعناقهم ويضربوا اعناقكمْ ؟ قالوا : وما ذلك يا رسول الله ؟ قال ذِكْرُ الله " وسئل أي الأعمال أفضل ؟ قال : " أن تموتَ ولسانُكَ رَطْبٌ من ذكر الله " قيل : المراد بذكر الله هو الصلاة نفسها ، أي : وَللصلواتُ أكبر من سائر الطاعات ، وإنما عبّر عنها بذكر الله ليشعر بالتعليل ، كأنه قال : والصلاة أكبر لأنها ذكر الله . وعن ابن عباس : ولذكر الله لكم إياكم ، برحمته ، أكبر من ذكركم إياه بطاعته . وقال ابن عطاء ذكر الله لكم أكبر من ذكركم له لأن ذكره بلا علة ، وذكركم مشوب بالعلل والأماني ، ولأن ذكره لا يفنى ، وذكركم يفنى . أو : لذكر الله أكبر من أن تفهمه أفهامكم وعقولكم . أو : ذكر الله أكبر من أن تبقى معه معصية . { والله يعلم ما تصنعون } من الخير والطاعة ، فيثيبكم أحسن الثواب . والله تعالى أعلم . الإشارة : الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر المتعلِّقَيْنِ بالجوارح الظاهرة ، والذكر ينهى عن الفحشاء والمنكر والمتعلقين بالعوالم الباطنة ، وهي المساوئ التي تحجب العبد عن حضرة الغيوب فإذا أكثر العبد من ذكر الله ، على نعت الحضور والتفرغ من الشواغل ، تنور قلبه ، وتطهر سره ولُبه ، فاتصف بأوصاف الكمال ، وزالت عن جميع العلل ، ولذلك جعلته الصوفية مُعْتَمَدَ أعمالِهِمْ ، والتزموه مع مرور أوقاتهم وأنفاسهم ، ولم يقتنعوا منه بقليل ولا كثير ، بل قاموا بالجد والتشمير ، فيذكرون أولاً بلسانهم وقلوبهم ، ثم بقلوبهم فقط ، ثم بأرواحهم وأسرارهم فيغيبون حينئذٍ في شهود المذكور عن وجودهم وعن ذكرهم ، وفي هذا المقام ينقطع ذكر اللسان ، ويصير العبد محواً في وجود العيان ، فتكون عبادتهم كلها فكرة وعبرة ، وشهوداً ونظرة ، وهو مقام العيان في منزل الإحسان ، فيكون ذكر اللسان عندهم بطالة ، وفي ذلك يقول الشاعر : @ مَا إِنْ ذَكَرْتُكِ إلاّ همَّ يَلْعَنُني سِرِّي وَقَلْبِي وروحي ، عند ذِكْرَاكَ حَتَّى كَأَنَّ رَقيباً مِنْكَ يَهْتِفُ بِي : إِيَّاكَ ، وَيْحَك ، والتَّذْكَارَ ، إِيَّاكَ أَمَا تَرَى الْحقَّ قَدْ لاَحَتْ شَوَاهِدُهُ ؟ وَوَاصَلَ الْكُلَّ ، مِنْ مَعْنَاهُ مَعْنَاكَ ؟ ! @@ قال القشيري : ويقال : ذكر الله أكبر من أن يبقى معه ذكر مخلوق أو معلوم للعبد ، فضلاً أن يبقى معه للفحشاء والمنكر سلطان . هـ . وقال في القوت على هذه الآية : الذكر عند الذاكرين : المشاهدة ، فمشاهدة المذكور في الصلاة أكبر من الصلاة . هذا أحد الوجهين في الآية : ثم قال : ورُوي في معنى الآية عن رسول لله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إنما فرضت الصلاة ، وأمر بالحج والطواف ، وأشعرت المناسك ، لإقامة ذكر الله - عز وجل - " قال تعالى : { وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكري } [ طه : 14 ] ، أي : لتذكرني فيها . ثم قال : فإذا لم يكن في قلبك للمذكور ، الذي هو المقصود والمُبْتغى ، عظمة ولا هيبة ، ولا إجلالُ مقامٍ ، ولا حلاوة فهْم ، فما قيمة ذكرك فإنما صلاتك كعمل من أعمال دنياك . وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم الصلاة قسماً من اقسام الدنيا ، إذ كان المصلي على مقام من الهوى ، فقال : " حُبب إليَّ من دنياكم … " ذكر منها الصلاة ، فهي دنيا لمن كان همه الدنيا ، وهي آخرة لأبناء الآخرة ، وهي صلة ومواصلة لأهل الله - عز وجل - ، وإنما سميت الصلاة لأنها صلة بين الله وعبده ، ولا تكون المواصلة إلا لتقي ، ولا يكون التقي إلا خاشعاً ، فعند هذا لا يعظم عليه طول القيام ، ولا يكبر عليه الانتهاء عن المنكر كما قال الله : { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } . هـ . ثم ذكر ما ينتج عن الصلاة الكاملة والذكر الدائم وهو الخلق الجميل فوصّى به ، حيث قال : { وَلاَ تُجَادِلُوۤاْ أَهْلَ ٱلْكِتَابِ … }