Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 144-145)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : { كتاباً } : مصدر ، أي : كتب الموت كتاباً مؤجلاً . يقول الحقّ جلّ جلاله : { وما محمد إلا رسول } يصيبه ما أصابهم ، { قد } مضت { من قبله الرسل } ، فسيمضي كما مضوا بالموت أو القتل ، { أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم } بعد تقرر شريعته وظهور براهينه ، عاتبهم على تقدير أن لو صار منهم انقلاب لو مات صلى الله عليه وسلم أو قتل ، أو على صدر من بعض المنافقين وهم ساكتون . قال أصحاب المغازي : خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى نزل بالشعب من أحُد ، في سبعمائة رجل ، وأمَّر عبدَ الله بنَ جبيرٍ على الرماة ، وهم خمسون رجلاً ، وقال : انضحوا عنا بالنبل ، لا يأتونا نم خلقنا ، لا تبرحوا مكانكم كانت لنا أو علينا ، فإنا لن نزال غالبين ما ثبتُّم مكانكم ، فجاءت قريش ، وعلى ميمنتهم خالد بن الوليد ، وعلى ميسرتهم عكرمة ، ومعهم النساء . ثم انتشب القتال فقال عليه الصلاة والسلام : " مَنْ يأخذ هذا السيف بحقه ؟ " فجاء رجال فمنعهم ، حتى جاء أبو دُجانة ، فقال : وما حقه يا رسول الله ؟ قال : " تضرب به العدو حتى ينحني " ، وكان رجلاً شجاعاً يختال عند الحرب ، فأخذه واعتم بعمامة حمراء ، وجعل يتبختر بين الصفين ، فقال عليه الصلاة والسلام : " إنها لمشيةٌ يبغضها الله إلاّ في هذا الموضع " . ثم حمل النبيّ صلى الله عليه وسلم على المشركين فهزموهم ، قال الزبير : فرأيت هنداً وصواحبها هارباتٍ مصعدات في الجبل ، فلما نظر الرماة إلى القوم قك انكشفوا ، قالوا : الغنيمة الغنيمة فقال لهم بعضهم : لا تتركوا أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال يلتفتوا ، وانطلق عامتهم ، فلما رأى خالد قلة الرماة ، صاح في خيله من المشركين ، ثم حمل على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من خلفهم ، وقتل عبد الله بن جبير ، واختلط الناس ، فقتل بعضُهم بعضاً ، ورمى عبدُ الله بن قمئة الحارثي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بحجر ، فكسر أنفه ورباعيته ، وشجَّه في وجهه ، وكسر البيضة على رأسه ، فذبَّ عنه مصعبُ بن عمير ، وكان صاحب الراية ، فقتله ابن قمئة وهو يرى أنه قتل النبيّ صلى الله عليه وسلمن فرجع إلى قومه ، وقال : قد قتلت محمداً ، وصرخ صارخ : ألا إنَّ محمداً قد مات . وقيل : إنه الشيطان ، فانكفأ الناس ، وجعل الرسول - عليه الصلاة والسلام - يدعو : " إليَّ عباد الله " ، فانحاز إليه ثلاثون من الصحابة ، وضموه حتى كشفوا عنه المشركين ، وأصيبت يد طلحة بن عبيد الله فيبست ، حتى وقَى بها النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وأصيبت عين قتادة بن النعمان ، حتى وقعت على وجنتيه ، فردها النبيّ صلى الله عليه وسلم مكانها ، فعادت أحسن مما كانت . وفشا في الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات - فقال بعض المسلمين : ليت ابنُ أُبي يأخذ لنا أماناً من أبي سفيان . وقال بعض المنافقين : لو كان نبيّاً ما قتل ، ارجعوا إلى دينكم الأول . فقال أنس بن النضر - عمُّ أنس بن مالك : إن كان قد قتل محمدٌ فَإِنَّ رب محمد لا يموت ، وما تصنعون بالحياة بعده ؟ فقاتلوا على ما قاتل عليه ، حتى تمتوا على ما مات عليه . ثم قال : اللهم إني أعتذر إليك ما صنع هؤلاء - يعني المسلمين - وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء - يعني الكفار - ، ثم شدّ سيفه وقاتل حتى قُتل ، رحمة الله عليه . فأنزل فيما قال المنافقون : { ومن ينقلب على عقبيه } بارتداده { فلن يضر الله شيئاً } وإنما يضر نفسه ، { وسيجزي الله الشاكرين } على نعمة الإسلام بالثبات عليه ، كأنس وأضرابه ، { وما كان } ينبغي { لنفس أن تموت إلا بإذن الله } أي : بإرادته ومشيئته ، أو بإذنه لملكٍ في قبض روحه ، والمعنى : أنَّ لكل نفس أجلاً مسمى في علمه تعالى وقضائه ، لا تستأخر عنه ساعة ولا تستقدم ، بالتأخر عن القتال ولا بالإقدام عليه ، وفيه تشجيعهم على القتال ووعد للرسول بحفظه وتأخر أجله فإن الله تعالى كتب أجل الموت { كتاباً مؤجلاً } مؤقتاً لا يتقدم ولا يتأخر . ونزل في الرماة الذين خالفوا المركز للغنيمة : { ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤتها منها } الجزاء الجليل ، { وسنجزي الشاكرين } الذين كروا نعم الله ، فلم يشغلهم شيء عن الجهاد في سبيل الله ، بل كان همهم رضي الله ورسوله دون شيء سواه . الإشارة : ينبغي للمريد أن يستغني بالله ، فلا يركن إلى شيء سواه ، وتكون بصيرته نافذة حتى يغيب عن الواسطة بشهود الموسوط ، فإن مات شيخه لم ينقلب على عقبيه ، فإن تمكن من الشهود فقد استغنى عن كل موجود ، وإن لم يتمكن نظر من يكمله ، فالوقوف من الوسائط وقوف مع النعم دون شهود المنعم ، فلا يكون شاكراً للمْنعم حتى لا يحجبه عنه شيء ، ولما مات - عليه الصلاة والسلام - دهشت الناس ، وتحيّرت لوقوفهم مع شهود النعمة ، إلاَّ الصدِّيق كان نفذ من شهود النعمة إلى شهود المُنعم ، فخطب حينئذٍ على الناس ، وقال : مَنْ كانَ يَعْبُدُ مُحَمَّداً فإن مُحَمَّداً قَدْ ماتَ ، ومَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فإنَّ اللّهَ حَيٌ لاَ يَمُوتِ . ثم قرأ : { وما محمد إلا رسول … } إلى قوله : { وسنجزي الشاكرين } ، وهم الذين نفذوا إلى شهود المنعم ، ولم يقفوا مع النعمة . ودخل بعض العارفين على بعض الفقراء فوجده يبكي ، فقال له : ما يبكيك ؟ قال : مات أستاذي ، فقال له العارف : ولم جعلت أستاذك يموت ؟ وهلا جعلته حيّاً لا يمت . فنبهه على نفاذ بصيرته إلى شهود المنعم دون الوقوف مع النعمة ، فالشيخ الحقيقي هو الذي يغني صاحبه عنه وعن غيره ، بالدلالة على ربه .