Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 159-159)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : { فبما } : صلة . والفظ ، الجافي ، يقال : فظ فظاظةً وفظوظاً ، ورجل فظ ، وامرأة فظة ، والفض - بغير المشالة : التفرق ، ويطلق على الكسر ، ومنه : لا يفضض الله فاك . يقول الحقّ جلّ جلاله : فبرحمة من الله ونعمة كنت سهلاً ليناً رفيقاً ، فحين عصوا أمرك ، وفروا عنك ، ألنت لهم جانبك ، ورفقت بهم ، بل اغتممت من أجلهم مما أصابهم ، { ولو كنت فظّاً } جافياً سيىء الخلق { غليظ القلب } قاسيَهُ فأغلظت لهم القول ، { لانفضوا من حولك } أي : لتفرقوا عنك ، ولم يسكنوا إليك ، { فاعف عنهم } فيما يختص بك ، { واستغفر لهم } في حق ربك حتى يشفعك فيهم { وشاورهم في الأمر } الذي يصح أن يشاور فيه تطييباً لخاطرهم ، ورفعاً لأقدارهم ، واستخراجاً وتمهيداً لسنة المشاورة لغيرهم ، وخصوصاً الأمراء . قال عليه الصلاة والسلام : " ما شقا عبد بمشورة ، وما سعد باستغناء برأي " قال أيضاً : " مَا خَابَ من اسْتَخَارَ ، وَلاَ نَدِمَ من اسْتَشَارَ " وقال أيضاً - عليه الصلاة والسلام - " إذَا كَانَ أُمَرَاؤُكُمْ خِيَارَكُمْ ، وَأَغْنِيَاؤُكُمْ أَسخيَاءَكُمْ ، وأَمرُكُم شُورَى بَيْنَكُم ، فَظَهْرُ الأرْض خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ بَطْنِهَا . وإذا كَانَ أُمَرَاؤُكُمْ شِرَارَكُمْ وأَغْنِيَاؤُكُمْ بُخَلاءَكُمْ ، ولم تكن أموركم شُورَى بَيْنَكُم ، فبَطْنُ الأرْضِ خَيرٌ من ظَهْرِهَا " . { فإذا عزمت } على شيء بعد الشورى ، { فتوكل على الله } أي : ثق به وكيلاً ، { إن الله يحب المتوكلين } فينصرهم ويهديهم إلى ما فيه صلاحهم . الإشارة : ما اتصف به نبينا - عليه الصلاة والسلام - من السهولة والليونة والرفق بالأمة ، اتصفت به ورثته من الأولياء العارفين ، والعلماء الراسخين ، ليتهيأ لهم الدعوة إلى الله ، أو إلى أحكام الله ، ولو كانوا فظاظاً غلاظاً لانفض الناس من حولهم ، ولم يتهيأ لهم تعريف ولا تعليم ، فينبغي لهم أن يعفوا ويصفحوا ويغفروا ويصبروا على جفوة الناس ، ويستغفروا لهم ، ويشاوروهم في أمورهم ، اقتداء برسولهم ، فإذا عزموا على إمضاء شيء فليتوكلوا على الله { إن الله يحب المتوكلين } . قال الجنيد - رضي الله عنه - : التوكل أن تقبل بالكلية على ربك وتعرض عمن دونه . وقال الثوري : أن تفني تدبيرك في تدبيره ، وترضى بالله وكيلاً ومدبراً ، قال الله تعالى : { وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً } [ النِّساء : 81 ] . وقال ذو النون : خُلع الأرباب ، وقطع الأسباب وقال الخواص : قطع الخوف والرجاء مما سوى الله تعالى . وقال العرجي : رد العيش إلى يوم واحد ، وإسقاط هم غد . هـ . وقال سهل : معرفة معطي أرزاق المخلوقين ، ولا يصح لأحد التوكل حتى تكون عنده السماء كالصفر والأرض كالحديد ، لا ينزل من السماء قطر ، ولا يخرج من الأرض نبات ، ويعلم أن الله لا ينسى له ما ضمن من رزقه بيه هذين . هـ . وقيل : هو اكتفاء العبد الذليل بالرب الجليل ، كاكتفاء الخليل بالخليل ، حين لم ينظر إلى عناية جبريل . وقيل لبهلوان المجنون : متى يكون العبد متوكلاً ؟ قال : إذا كان بالنفس غريباً بين الخلق ، وبالقلب قريباً إلى الحق . وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " مَنْ سَرَّهُ أنْ يَكُونَ أكْرَم النَّاسِ فَلْيَتقِ الله ، ومَنْ سَرَّه أن يكُون أغْنَى النَّاس فليكنِ بما في يد الله أوثق منه بما في يَده " . قال ابن جزي : التوكل هو الاعتماد على الله في تحصيل المنافع وحفظها بعد حصولها ، وفي دفع المضرات ورفعها بعد وقوعها ، وهو من أعلى المقامات ، لوجهين : أحدهما : قوله : { إن الله يحب المتوكلين } ، والآخر : الضمان الذي في قوله : { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } [ الطّلاَق : 3 ] ، وقد يكون واجباً لقوله : { وَعَلَى اللَّهِ فَتَوكلَوا إِنْ كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ المَائدة : 23 ] ، فجعله شرطاً في الإيمان ، ولظاهر قوله : { وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونِ } [ آل عِمرَان : 122 ] فإن الأمر محمول على الوجوب . واعلم أن الناس في التوكل على ثلاث مراتب : الأولى : أن يعتمد العبد على ربه ، كاعتماد الإنسان على وكيله المأمون عنده ، الذي لا يشك في نصحيته له وقيامه بمصالحه . الثانية : أن يكون العبد مع ربه كالطفل مع أمه لا يعرف سواها ولا يلجأ إِلاَّ إليها . الثالثة : أن يكون العبد مع ربه كالميت بين يدي الغاسل ، قد أسلم إليه نفسه بالكلية . فصاحب الدرجة الأولى عنده حظ من النظر لنفسه ، بخلاف صاحب الثانية . وصاحب الثانية له حظ من الاختيار ، بخلاف صاحب الثالثة . وهذه الدرجات مبنية على التوحيد الخاص ، الذي تكلمتُ عليه في قوله : { وَإِلَهُكُمْ إِلَهُ وَاحِدٌ } [ البَقَرَة : 163 ] ، فهي تقوى بقوته وتضعف بضعفه . فإن قيل : هل يشترط في التوكل ترك الأسباب أم لا ؟ فالجواب : أن الأسباب على ثلاثة أقسام : أحدها : سبب معلوم قطعاً قد أجراه الله ، فهذا لا يجوز تركه كالأكل لرفع الجوع وللباس لرفع البرد . الثاني : سبب مظنون : كالتجارة وطلب المعاش ، وشبه ذلك ، فهذا لا يقدح فعله في التوكل ، فإن التوكل من أعمال القلوب لا من أعمال البدن ، ويجوز تركه لمن قوي عليه . والثالث : سبب موهوم بعيد ، فهذا يقدح فعله في التوكل ، قلت : ولعل هذا مثل طلب الكيمياء والكنوز وعلم النار والسحر ، وشبه ذلك . ثم فوق التوكل التفويض ، وهو : الاستسلام لأمر الله تعالى بالكلية ، فإن المتوكل له مراد واختيار ، وهو يطلب مراده في الاعتماد على ربه ، وأما المفوض فليس له مراد ولا اختيار ، بل أسند الاختيار إلى الله تعالى ، فهو أكمل أدباً مع الله . هـ . وأصله للغزالي ، وسيأتي بقية الكلام عند قوله : { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِى لاَ يَمُوتُ } [ الفُرقان : 58 ] . وبالله التوفيق .