Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 18-19)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : { قائماً } : حال مِن { الله } ، وإنما جاز من بعض المعطوفات لعدم اللبس ، كقوله : { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً … } [ الأنبيَاء : 72 ] ، ولا يجوز : جاء زيد وعمر راكباً لعدم القرينة ، أو مِن { هو } ، والعامل الجملة لأنه حال مؤكدة ، أي : تفرد قائماً ، أو حقه قائماً ، { بالقسط } أي : العدل ، و { إن الدين } : جملة مستأنفة مؤكدة للأولى ، أي : لا دين مرضى عند الله سوى الإقرار بالشهادة والدخول فيما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، ومن قرأ بالفتح فهو بدل من { أنه } ، بدل الكل ، إن فسر الإسلام بالإيمان ، وبدل الاشتمال إن فسر بالشريعة . يقول الحقّ جلّ جلاله : { شهد الله أنه لا إله إلا هو } أي : بيَّن وحدانيتَه بنصب الدلالئل الدالة عليها وإنزال الآيات الناطقة بها ، أو بتدبيره العجيب وصنعته المتقنة وأموره المحكمة ، وفي ذلك يقول القائل : @ يَا عَجَباً كيف يُعْصَى الإلهُ أم كيف يَجْحَدُه الجاحدُ ؟ ! وللهِ في كل تحريكةٍ وتسكينةٍ أبداً شاهدُ وفي كُلِّ شَيءٍ له آيةٌ تَدُلُّ على أنَّه واحِدُ @@ وقيل لبعض العرب : ما الدليل على أن للعالم صانعاً ؟ فقال : البعرة تدل على البعير ، وآثار القدم تدل على المسير ، فهيكل علوي بهذه اللطافة ، ومركز سفلي بهذه الكثافة ، أمَا يدلان على الصانع الخبير ؟ ! { و } شهدت { الملائكة } أيضاً بالإقرار بالوحدانية والإخبار بها ، { وأولوا العلم } وهم : الأنبياء والعلماء بالله ، بالإيمان بها والاحتجاج عليها ، شبه ذلك في البيان والكشف بشهادة الشاهد . وفيه دليل شرف أهل العلم وفضلهم ، حيث قرن شهادتهم بشهادته لأن العلم صفة الله العليا ونعمته العظمى ، والعلماء أعلام الإسلام ، والسابقون إلى دار السلام ، وسُرج الأمكنة وحجج الأزمنة . وعن جابر قال : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " سَاعَةٌ مِنْ عَالمِ يتَّكِئ على فِرَاشِهِ ، ينظُرُ في علمهِ ، خَيرٌ مِنْ عِبَادَة العَابِد سَبعينَ عاماً " وعن معاذ قالَ : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " تعلموا العلم فإن تعلمه لله خشيةٌ ، ومدارستَه تسبيحٌ ، والبحث فيه جهادٌ ، وتعليمه مَنْ لا يعلمه صدقةٌ ، وتذكُّره في أهله قُرْبَة " ثم قال في آخر الحديث في فضل أهل العلم : " وتَرْغَبُ الملائكة في خُلتِهم ، وبأجنحتها تمسحُهم ، وفي صلاتها تستغفر لهم ، وكلُّ رطب ويابس يستغفر لهم . حتى حيتان البحر وهوامه ، وسباع الأرضين وأنعامها ، والسماء ونجومها ، ألا وإن العلم حياةُ القلوب من العمى ، ونورُ الأبصار من الظلم ، وقوة الأبدان من الضعف ، يبلغ بالعبد منزل الأحرار ومجالسة الملوك ، والفكر فيه يُعْدل بالصيام ، ومدارسته بالقيام ، وبه يُعرف الحلال والحرام ، وبه تُوصلَ الأرحام ، العلم إمام والعمل تابعه ، يُلْهَمُه بالسعداء ، ويُحْرَمه الأشقياء " . حال كون الحقّ تعالى { قائماً بالقسط } أي : مُدبراً لأمر خلقه بالعدل ، فيما حكم وأبرم ، { لا إله إلا هو } ، كرر الشهادة للتأكيد ، ومزيد الاعتبار بأمر التوحيد ، والحكم به ، بعد إقامته الدليل . عليه وقال جعفر الصادق : الأُولى وصف وتوحيد ، والثانية رسم وتعليم . أي : قولوا : { لا إله إلا هو } ، أو ليرتب عليه قوله : { العزيز الحكيم } ، فيعلم أنه الموصوف بهما ، وقدَّم { العزيز } ليتقدم العلم بقدرته على العلم بحكمته . { إن الدين عند الله الإسلام } أي : إن الدين المرضى عند الله هو الانقياد لأمر التوحيد والإذعان لمن جاء به . ورُوِيَ عن أنسَ رضي الله عنه قال : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " من قرأَ هذه الآيةَ عند منامه خَلَقَ اللَّهَ تعالى سبعين ألف خَلْقٍ يستغفرون الله له إلى يوم القيامة " وهي أعظم شهادة في كتاب الله ، " من قرأها إلى الحكيم وقال : وأنا أشهد بما شهد الله به ، وأستودِعُ اللّهَ هذه الشهادة ، وهي لي عند الله وديعة ، يقول الحق تعالى : إن لعبدي هذا عندي عهداً وأنا أحقُّ مَنْ وفى بالعهد ، أدخِلوا عبدي الجنة " . الإشارة : صدرُ الآية يشير إلى الفرق ، وعَجُزُها يشير إلى الجمع ، كما هي عادته تعالى في كتبه العزيز ، يشرع أولاً ، ويُحَقِّق ثانياً ، فأثبت الحق - جلّ جلاله - شهادة الملائكة وأولى العلم مع شهادته لإثبات سر الشريعة ، ثم محاها بقوله : { لا إله إلا هو العزيز الحكيم } بحكم الحقيقة . فإثبات الرسوم شريعة ، ومحوها حقيقة ، فتوحيد أهل الرسوم والأشكال دلالة من وراء الحجاب ، وتوحيد أهل المحو والاضمحلال شهادة من داخل الحجاب ، وتوحيد أهل الرسوم دلالة وبرهان ، وتوحيد أهل المحو شهادة وعيان ، أهل الدليل والبرهان عموم عند أهل الشهود والعيان . إثبات الرسوم إسلام وإيمان ، ومحوها شهود وإحسان ، وكل توحيد لم تظهر ثمرته على الجوارح من الإذعان والانقياد لأحكام العبودية فهو مخدج ، لقوله تعالى : { إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ } [ آل عِمرَان : 19 ] أي ، الانقياد والإذعان ، ظاهراً وباطناً ، لأحكام القهرية والتكليفية ، فمن لا انقياد له لا دين له كاملاً . ثم ذكر من سبق له الخذلان بعد سطوع الدليل والبُرهان ، فقال : { … وَمَا ٱخْتَلَفَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ فَإِنَّ ٱللَّهِ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } قلت : { بغياً } : مفعول له ، علة للاختلاف . يقول الحقّ جلّ جلاله : { وما اختلف } اليهود والنصارى في حقيقة الإسلام والتدين به ، { إلا من بعد ما جاءهم العلم } أي : من بعد ما تمكنوا من العلم بصحته ، وأن الدين عند الله هو الإسلام ، فجحدوه ظلماً وحسداً . أو ما اختلف أرباب الكتب المتقدمة في دين الإسلام فأثبته قوم ، وقال قوم : إنه مخصوص بالعرب ، ونفاه آخرون مطلقاً ، إلا من بعد ما ثبت لهم بصحته وعموم الدعوة له . أو في التوحيد فثلث النصارى ، وقالت اليهود : عزير ابن الله ، بعد ما صح لهم العلم بالتوحيد فغيروا . وقال الربيع : إن موسى عليه السلام لما حضره الموت ، دعا سبعين حبراً من قومه ، فاستودعهم التوراة ، فلما مضى القرن الأول والثاني والثالث وقعت بينهم الفرقة ، وهم : الذين أوتوا الكتاب من أبناء السبعين ، فأراقوا الدماء ووقع بينهم الشر والاختلاف . وذلك من بعد ما جاءهم العلم ، يعني بيان ما في التوراة ، { بغياً بينهم } أي : طلباً للملك والرئاسة والتحاسد ، فسلّط عليهم الجبابرة ، { ومن يكفر بآيات الله } المنزلة على رسوله ، أو الدالة على وحدانيته ، { فإن الله سريع الحساب } لا يشغله شأن عن شأن ، وفيه تهديد لأهل الاختلاف . الإشارة : الاختلاف على الصوفية ، والإنكار عليهم ، إن كان بغياً وحسداً وخوفاً على زوال رئاسة المنكر ، فهذا معرض لمقت الله ، فقد آذن بحرب الله ، وبالُه سوء الخاتمة ، والعياذ بالله ، وفي ذلك يقول القائل : @ هِمَمُهُمْ تَقْضِي بحُكْ الوَقْتِ مُنِكِرُهُم مُعَرَّضٌ للمٌقْتِ @@ وإن كان غيره على الشريعة ، وسدّاً لباب الذريعة ، فهذا معذور أو مأجور إن صح قصده ، وهو منخرط في سلك الضعفاء ، قال تعالى : { لَيْسَ عَلَى الضُّعَفآءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ } [ التوبة : 91 ] ، ولا ينكر على الفقير إلا المُحرَّم المجمع على تحريمه ، وليس فيه تأويل ، كالزنى بالمعينة ، واللواط وشبهه ، والمؤمن يلتمس المعاذر ، والمنافق يلتمس العيوب ، وبالله التوفيق وهو الهادي إلى سواء الطريق .