Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 26-27)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : { اللهم } منادى مبني على الضم ، حذفت منه الياء المتضمنة للفرق ، وعوضت منها الميم المُؤْذِنة بالجمع ، لئلا يبقى بين الداعي والمدعو فَرْقٌ ، و { مالك } : نعت لمحل المنادي لأنه مفعول ، ومنادى ثانٍ عند سيبويه ، لأن الميم عنده تمتع الوصفية . يقول الحقّ جلّ جلاله : { قل } يا محمد في استنصارك على عدوك : { اللهم } يا { مالك الملك } مُلك الدنيا وملك الآخرة ، { تؤتي الملك } والنصر { من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء } ، فهب لنا ملك الدارين ، والنصر على الأعداء في كل أين ، وانزع الملك من يد عدونا ، وانقله إلينا وإلى من تبعنا إلى يوم الدين . قال قتادة : ذُكر لنا أن النبيّ صلى الله عيله وسلم سأل ربه أن يجعل مُلك فارس والروم في أمته ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . { وتعز من تشاء } بالإيمان والطاعة { وتذل من تشاء } بالكفر والمعصية ، أو تعز من تشاء بالمعرفة ، وتذل من تشاء بالفكرة ، أو تعز من تشاء بالقناعة والورع ، وتذل من تشاء بالحرص والطمع ، أو تعز من تشاء بالتوفيق والإذعان ، وتذل من تشاء بالكسل والخذلان ، { بيدك الخير } كله ، فأعطنا من خيرك الجزيل ، وأجرنا من الشر الوبيل ، فالأمور كلها بيدك . قال البيضاوي : ذكر الخير وحده لأنه المقضي بالذات ، والشر مقضي بالعرض إذ لا يوجد شر جزئي ما لم يتضمن خيراً كليّاً . أو لمراعاة الأدب في الخطاب ، أو لأن الكلام وقع فيه ، إذ رُوِيَ أنه عليه الصلاة والسلام - لَمَّا خَطَّ الخَنْدَقَ ، وقَطَعَ لكل عَشَرَة أربعينَ ذِرَاعاً ، وأخذوا يَحْفرُون ، فظهر فيه صخْرَةٌ عظيمةٌ لم تَعْمَلْ فيها المَعَاوِلُ ، فَوَجَّهُوا سلْمَانَ إلى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يُخبرُه ، فجاء عليه الصلاة والسلام ، فأخذ المعْول منه ، فَضَرب به ضَرْبَةً صدعَهَا ، وَبَرَقَ مِنْهَا أضَاءَ ما بَيْنَ لابَتَيْها ، لكأن مصباحاً في جوْف بَيتِ مُظلم ، فكَبَّرَ ، وكَبَّرَ معه المسلمونَ ، وقال : " أضَاءَتْ لي مِنْهَا قُصُور الحيرة ، كأنها أنيابُ الكلاب ، " ثم ضرب الثانية ، فقال : " أضَاءَتْ لي مِنْها القُصور الحمر من أرض الروم " ، ثم ضرب الثالثة ، فقال : " أضاءت لي منها قُصُورُ صَنعاء ، وأخْبرَنِي جِبْريل أنَّ أُمَّتِي ظَاهرةٌ علَى كُلِّها ، فأبشروا " ، فقال المنافقون : ألا تَعْجَبُون ! يمنيكم ويعدكم الباطل ، ويُخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحِيَرةِ ، وأنَّها تُفْتحُ لَكُمْ ، وأنتم إنما تَحْفُرون الخنْدَقَ مِنَ الفَرَق فنزلت ، أي : الآية . ونبّه على أن الشر أيضاً بيده بقوله : { إنك على كل شيء قدير } . هـ . ثم استدلّ على نفوذ قدرته بقوله : { تولج الليل في النهار } أي : تُدخل أحدَهما في الآخر بالتعقيب ، أو بالزيادة أو النقص ، فيولج الليل في النهار ، إذا طال النهار حتى يكون خمس عشرة ساعة ، وفي الليل تِسْعٌ ، ويُولج النهار في الليل ، إذا طال الليل كذلك ، وفيه دلالة على أن مَنْ قدر على ذلك قدر على معاقبة العز بالذل ، والمُلك بنزعه . { وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي } كالحيوانات من النُّطَف ، وبالعكس ، والنباتات من الحبوب ، وبالعكس ، أو المؤمن من الكافر والعالم من الجاهل ، وبالعكس ، { وترزق من تشاء } من الأقوات والعلوم والأسرار ، { بغير حساب } ، ولا تقدير ولا حصر . اللهم ارزقنا من ذلك الحظ الأوفر ، { إنك على كل شيء قدير } . " روى معاذ رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال له : يا معاذُ ، أتحبُّ أن يقضيَ اللّهُ عنك دَيْنك ؟ قال : نعم يا رسول الله ، قال : قل " { اللهم مالك الملك } إلى قوله : { بغير حساب } ، رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما ، تعطي منهما ما تشاء ، وتمنع منهما ما تشاء اقضِ عني ديني ، فلو كان عليك ملءُ الأرض ذهباً وفضة لأدَّاه الله عنك " . ورُوِيَ عن عليّ رضي الله عنه أنه قال : الفاتحة ، وآية الكرسي ، و { شهد الله } ، و { قل اللهم مالك الملك … } إلى { … بغير حساب } ، لمّا أراد الله أن ينزلهن ، تعلقن بالعرش وقلن : تهبطنا إلى دار الذنوب فقال الله عزّ وجلّ : " وعزّتي وجلالي لا يقرؤكن عبد ، دبر كل صلاة مكتوبة ، إلا أسكنته حظيرة القدس ، على ما كان فيه ، وإلا نظرت إليه بعيني المكنونة في كل يوم سبعين نظرة ، وقضيت له في كل يوم سبعين حاجة ، وأعززته من كل عدو ، نصرته عليه … " الحديث . انظر الثعلبي . الإشارة : من ملك نفسه وهواه فقد ملكه الله ملك الدارين ، ومن ملكته نفسه وهواه فقد أذلّه الله في الدراين ومن ملك نفسه لله فقد مكنه الله من التصرف في الكون بأسره ، وكان حرّاً حقيقة ، وفي ذلك يقول الشاعر : @ دَعَوْنِي لمُلْكِهم ، فلمَّا أجبتُهم قالُوا : دَعَوْنَاك للمُلْك لا للمِلْكِ @@ ومن أذلَّ نفسه لله فقد أعزّه الله ، قال الشاعر : @ تَذَلَّلّ لِمَنْ تَهوَى لِتَكْسِبَ عِزَّةً فَكَمْ عزَّةٍ قَدْ نَالَهَا المَرْء بالذُّلِّ إذَا كانَ مَنْ تَهْوى عَزِيزاً وَلَم تَكُنْ ذَلِيلاً لَهُ ، فَاقْرِ السَّلامَ عَلَى الْوصْلِ @@ قال ابن المبارك : قلت لسفيان الثوري : من الناس ؟ قال : الفقهاء ، قلت : فمن الملوك ؟ قال : الزهادن قلت : فمن الأشراف ؟ قال : الأتقياء ، قلت : فمن الغوغاء ؟ قال : الذين يكتبون الحديث ليستأكلوا به أموال الناس ، قلت : أخبرني ما السفلة ؟ قال : الظلمة . وقال الشبلي : المُلك هو الاستغناء بالمكون عن الكونين . وقال الوراق : تُعز من تشاء بقهر النفس ومخالفة الهوى ، وتذل من تشاء باتباع الهوى . قلت : وفي ذلك يقول البرعي رضي الله عنه : @ لا تَتْبَع النَّفْسَ في هَوَاهَا إنَّ اتِّبَاعَ الْهَوَى هَوَانُ @@ وقال وهب : " خرج الغِنَى والعز يجولان ، فلقيا القناعة فاستقرا " . وقال عيسى عليه السلام لأصحابه : أنتم أغنى من الملوك ، قالوا : يا روح الله كيف ، ولسنا نملك شيئاً ؟ قال : أنتم ليس عنكم شيء ولا تريدونها ، وهم عندهم أشياء ولا تكفيهم هـ . قال الشافعي رضي الله عنه : @ أَلاَ يا نفسُ إن ترضَيْ بِقُوتٍ فأنت عزيزةٌ أبداً غنيهْ دَعِي عنكِ المطامِعَ والأمانِي فكمْ أُمْنِيَّةٍ جَلبَتْ مَنِيهْ @@ وقال آخر : @ أَفَادتني القناعةُ كلَّ عزٍّ وهَلْ عِزٍّ أعزُّ مِنْ القَنَاعَهْ فَصَيِّرْها لنفسِكَ رأسَ مالٍ وصَيِّرْ بعدها التَّقْوى بِضَاعَهْ تَنَل عِزّاً وتَغْنَى عَنْ لَئِيمٍ وتَرْحَلْ للجِنَان بصبْرِ ساعَهْ @@ وقال عليه الصلاة والسلام : " مِن أَصْبَحَ آمِناً فِي سِرْبِه ، مُعَافى فِي بَدنه ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيا بحذافيرها " . تولج ليل القبض في نهار البسط ، وتولج نهار البسط في ليل القبض ، وترزق من تشاء فيهما من العلوم والأسرار ، بغير حساب ولا مقدار ، أو تولج ليل العبودية في نهار الحرية ، وتولج نهار الحرية في ليلة العبودية ، فمن كان في نهار الحرية تاه على الوجود ، ومن كان في ليل العبودية عطل ذله ذل اليهود ، والعبد لا يخلو من هذين الحالين ، يتعاقبان عليه تعاقب الليل والنهار ، والله تعالى أعلم .