Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 28-30)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : { تُقاة } : مصدر تَقَى ، على وزن فَعَل ، وله مصدران آخران : تُقّى وتَقِيَّة - بتشديد الياء - ، وبه قرأ بعقوب ، وأصله : تُقِيَة ، فقلبت الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها . و { يوم } : ظرف ، والعامل فيه : اذكر ، أو اتقوا ، أو المصير ، أو تود ، و { ما عملت } : مبتدأ ، و { تود } : خبر ، أو معطوف على { ما عملت } الأولى ، و { تود } : حال . يقول الحقّ جلّ جلاله ، لقوم من الأنصار ، كانوا يُوالون اليهود لقرابة أو صداقة تقدمت في الجاهلية : { لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء } ، أي : أصدقاء ، إذ الحب إنما يكون في الله والبغض في الله ، أو لا تستعينوا بهم في غزو ولا غيره ، فلا تودوهم { من دون المؤمنين } إذ هم أحق بالمودة ، ففيهم مَنْدُوحة عن مولاة الكفرة ، { ومن يفعل ذلك } الاتخاذ { فليس من } ولاية { الله في شيء } إذ لا تجتمع ولاية الله مع ولاية عدوه . قال الشاعر : @ تَوَدُّ عَدُوِّي ثُمِّ تَزْعُمُ أنَّني صَدِيقكَ ، لَيْسَ النّوْك عَنْكَ بِعَازِبِ @@ والنُّوك - بضم النون - : الحُمْق . فلا تُوالوا الكفار { إلا أن تتقوا منهم تقاة } أيْ : إلا أن تخافوا من جهتهم ما يجب اتقاؤه ، فلا بأس بمداراتهم ظاهراً ، والبعد منهم بطناً ، كما قال عيسى عليه السلام : كن وَسَطاً وامْشِ جانباً . وقال ابن مسعود رضي الله عنه : خالطوا الناس وزايلوهم ، وصافحوهم بما يشتهون ، ودينكم لا تَثْلُموه . وقال جعفر الصادق : إني لأسمع الرجل يشتمني في المسجد ، فأستتر منه بالسارية لئلا يراني . هـ . { ويحذركم الله نفسه } أي : يخوفكم عذابه على موالاة الكفار ومخالفة أمره وارتكاب نهيه ، تقول العرب : احذرنا فلاناً : أي : ضرره لا ذاته ، وفي ذكر النفس زيادة تهديد يُؤذِن بعقاب يصدر منه بلا واسطة ، { وإلى الله المصير } فيحسر كل قوم مَن أحب . { قل إن تخفوا ما في صدوركم } من موالاة أعدائه ، { أو تبدوه يعلمه الله } فلا يخفى عليه ما تُكن الصدور من خير أو شر . وقدَّم في سورة البقرة الإبداء ، وأخره هنا لأن المحاسبة لا ترتيب فيها بخلاف العلم ، فإن الأشياء التي تبرز من الإنسان يتقدم إضمارها في قلبه ثم تبرز ، فقد تعلق علم الله تعالى بها قبل أن تبرز ، فلذلك قدَّم هنا الإخفاء لتقدم وجوده في الصدر ، وأخره في البقرة ، لأن المحاسبة لا ترتيب فيها ، { ويعلم ما في السماوات وما في الأرض } فلا يخفى عليه شيء ، { والله على كل شيء قدير } فيقدر على عقوبتكم إن لم تنتهوا ، والآية بيان لقوله : { ويحذركم الله نفسه } لأن الذات العالية متصفة بعلم محيط بجميع المعلومات ، وبقدرة تحيط بجميع المقدورات ، فلا تجسروا على عصيانه ، فإنه ما من معصية إلا وهو مطلع عليها ، قادرٌ على العقاب عليها يوم القيامة . { يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً } بين يديها تنتفع به ، { وما عملت من سوء تود له أن بينها وبينه أمداً بعيداً } ، كما بين المشرق والمغرب ، ولا ينفع الندم وقد زلَّت القدم . { ويحذركم الله نفسه } ، كرره للتأكيد وزيادة التحذير ، وسيأتي في الإشارة حكمة تكريره ، { والله رؤوف بالعباد } حيث حذرهم مما يضرهم ، وأمرهم بما يقربهم ، فكل ما يصدر منه - سبحانه - في غاية الكمال . الأشارة : لا ينبغي للمريد الصادق أن يخالط أهل الغفلة ، ولا يتودد معه فإن ذلك يقطعه عن ربه ، ويصده عن دواء قلبه ، وفي ذلك يقول صاحب العينية : @ وَقَاطِعْ لِمَنْ وَاصَلْتَ أيَّامَ غَفْلَةٍ فَمَا وَاصَلَ العُذْالَ إلاَّ مُقَاطِعُ وَجَانِب جَنَابَ الأَجْنَبِي لَو أنَّهُ لِقُربِ انْتِسَابِ فِي المَنَامِ مُضَاجع فَلِلنَّفْسِ مِنْ جُلاَّسِهَا كُلُّ نِسْبَةٍ وَمِنْ خُلَّةٍ لِلْقَلْبِ تِلْكَ الطَّبَائِعُ @@ إلا أن يتقي منهم تقية ، بحيث تلجئه الضرورة إلى مخالطتهم ، فيخالطهم بجسمه ويفارقهم بقلبه ، وقد حذَّر الصوفية من صحبة أرْبَع طوائف : الجبابرة المتكبرون ، والقراء المداهنون ، والمتفقرة الجاهلون ، والعلماء المتجمدون لأنهم مُولَعون بالطعن على أولياء الله ، يرون ذلك قربة تُقربهم إلى الله . ثم قال : { ويحذركم الله نفسه } أن تقصدوا معه غيره ، وهذا خطاب للسائرين بدليل تعقيبة بقوله : { وإلى الله المصير } أي : إليه ينتهي السير وإليه يكون الوصال ، ثم شدد عليهم في المراقبة فقال : { إن تُخفوا ما في صدوركم } من الميل أو الركون إلى الغير أو الوقوف عن السير ، { أو تبدوه يعلمه الله } فينقص عنكم المدد بقدر ذلك الميل ، يظهر ذلك يوم الدخول إلى بلاد المشاهدة ، { يوم تجد كل نفس } ما قدمت من المجاهدة ، فبقدر المجاهدة تكون المشاهدة . ثم خاطب الواصلين فقال : { ويحذركم الله نفسه } من أن تشهدوا معه سواه ، فلو كُلّف الواصل أن يشهد غيره لم يتسطع ، إذ لا غير معه حتى يشهده . ويدل على أن الخطاب هنا للواصلين تعقيبه بالمودة والرأفة ، اللائقة بالواصلين المحبوبين العارفين الكاملين . خرطنا الله في سلكهم بمنِّه وكرمه . ثم لا طريق للوصول إلى هذا كله إلا باتباع الرسول الأعظم .