Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 33-37)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : { ذرية } : حال ، أبو بدل من الآلين ، أو من نوح ، أي : أنهم ذرية واحد متشعبة بعضها من بعض . و { إذ قالت } : ظرف لعليم ، أو بإضمار اذكر . و { محرراً } : حال ، والتحرير : التخلص ، يقال : حررت العبد ، إذا خلصته من الرق ، وحررت الكتاب ، إذا أصلحته وأخلصته ، ولم يبق فيه ما يحتاج إلى إصلاح ، ورجل حُر ، أي : خالص ، ليس لأحد عليه متعلق ، والطين الحُر ، أي : الخالص من الحمأة . وقوله : { وإني سميتها مريم } : عطف على { إني وضعتها } ، وما بينهما اعتراض ، من كلامها على قراءة التكلم ، أو من كلام الله على قراءة التأنيث . يقول الحقّ جلّ جلاله : { إن الله اصطفى آدم } بالخلافة والرسالة ، { ونوحاً } بالرسالة والنِّذَارة ، { وآل إبراهيم } بالنبوة والرسالة ، وهم : إسحاق ، ويعقوب والأسباط ، وإسماعيل ، وولده سيد ولد آدم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بالنبوة والرسالة والمحبة الجامعة . { وآل عمران } ، وهم موسى وهارون - عليهما السلام - وهو عمران بن يصهر بن فاهث بن لاوى بن يعقوب ، أو المراد بعمران : عمران بن أشهم بن أموي ، من ولد سليمان عليه السلام ، وهو والد مريم أم عيسى عليه السلام ، وقيل : المراد عمران بن ماثان ، أحد أجداد عمران والد مريم . وإنما خصّ هؤلاء لأن الأنبياء كلهم من نَسْلهم . وقيل : أراد إبراهيم وعمران أنفسهما . " وآل " مقحمة ، كقوله : { وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ ءَالُ مُوسَى وَءَالُ هَارُونَ } [ البَقَرَة : 248 ] أي : موسى وهارون ، فقد فضل الحقّ - جلّ جلاله - هؤلاء الأنبياء بالخصائص الجسمانية والروحانية { على العالمين } أي : كلاً على عَالَمِي زمانه ، وبه استدلّ على فضلهم على الملائكة . حال كونهم { ذرية } متشعبة { بعضها من } ولد { بعض } في النسب والدين ، { والله سميع } لأقوال العباد وأعمالهم ، { عليم } بسرائرهم وعلانيتهم ، فيصطفي من صفا قوله وعمله ، وخلص سره ، للرسالة والنبوة . ثم تخلًّص لذكر نشأة مريم ، توطئة لذكر ولدها ، فقال : واذكر { إذ قالت امرأة عمران } وهي حنة بنت فاقوذا ، جدة عيسى عليه السلام : { ربِّ إني نذرت لك ما في بطني محرراً } لخدمة بيت المقدس ، لا أشغله بشيء ، أو مخلصاً للعبادة ، { فتقبل مني إنك أنت السميع العليم } ، وكان المحرر عندهم ، إذا حُرر ، جُعل في الكنيسة يقوم عليها وينكسها ، ولا يبرح منها حتى يبلغ الحلم ، ثم يُخَيَّر ، فإن أحبَّ أقام أو ذهب حيث شاء ، ولم يكن يحرر إلا الغلمان لأن الجارية لا تصلح للخدمة لما يصيبها من حيض ، فحررت أمُّ مريمَ حمْلَها تَدْرِ ما هو . وقصة ذلك : أن زكريا وعمران تزوجا أختين ، فتزوج زكريا أشياعَ بنت فاقوذا ، وتزوج عمران حنة بنت فاقوذا ، فكان عيسى ويحيى ابني الخالة ، وكانت حنة عاقراً لا تلد ، فبينما هي في ظل شجرة ، بصُرت بطائر يطعم فرخاً . فتحركت لذلك نفسها للولد فدعت الله تعالى ، وقالت : اللهم لك علي ، إن رزقتني ولداً ، أن أتصدق به على بيت المقدس ، يكون من سدنته وخدمه ، فحملت بمريم ، فهلك عمران ، وحنة حامل بمريم ، { فلما وضعتها } أي : النذيرة ، أو ما في بطنها ، قالت : { ربِّ إني وضعتها أنثى } ، قالت ذلك تحسّراً وتحزناً إلى ربها ، لأنها كانت ترجوا أن تلد ذكراً يصلح للخدمة ، ولذلك نذرته . قال تعالى : { والله أعلم بما وضعت } ، تعظيماً لموضوعها وتنويهاً بشأنها ، أو من كلامها - على قراءة التكلم - تسلية لنفسها ، أي : ولعل لله فيه سرّاً ، قال تعالى : { وليس الذكر كالأنثى } أي : وليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي وهبت ، أو من كلامها ، أي : وليس الذكر والأنثى سيان فما نذرتُ . ثم قالت : { وإني سميتها مريم } راجية أن يطابق اسمُها فعلها ، فإن مريم في نعتهم في العابدة الخادمة ، وكانت مريم أجمل النساء في وقتها وأفضلهن ، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم : " حَسْبُكَ من نساءِ العالمين أربع : مريم بنت عمران ، وآسية امرأة فرعون ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم " . ثم قالت حنة أم مريم : { وإني أعيذها بك } أي : أحصنها بك { وذريتها من الشيطان الرجيم } أي : المرجوم بالشهب ، أو المطرود ، وفي الحديث : " مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إلاَّ والشَّيْطَانُ يَمَسُّهُ حِينَ يُولَد فَيَسْتَهِلُّ مِنْ مَسِّهِ ، إلاَّ مَرْيَمَ وابْنهَا " ومعناه : أن الشيطان يطمع في إغواء كل مولود ، بحيث يتأثر به ، إلا مريم وابنها لمكان الاستعاذة ، قلت : وكذا الأنبياء كلهم ، لا يمسهم لمكان العصمة . والله أعلم . { فتقبلها ربها } أي : رَضِيَها في النذر مكان الذكَر ، { بقبول حسن } أي : بوجه حسن ، وهو إقامتها مقام الذكر ، وتسلمها للخدمة عقب ولادتها قبل أن تكبر وتصلح للسِّدانة ، رُوِي : أن حنة لما ولدتها لفَّتْها في خرقة ، وحملتها إلى المسجد ، ووضعتها عند الأحبار ، وقالت : دونكم هذه النذيرة ، فتنافسوا فيها ، فأنها كانت ابنة إمامهم ، وصاحب قربانهم ، فإن بني ماثان كانت رؤوس بني إسرائيل وملوكهم ، فقال زكريا : أنا أحق بها ، عندي خالتها ، فأبوا إلا القرعة ، وكانوا سبعة وعشرين ، فانطلقوا إلى نهر ، فألقوا فيه أقلامهم ، فطفا قلم زكريا - أي : علا - على وجه الماء ، ورسبت أقلامهم ، فأخذها زكريا . { وأنبتها } الله { نباتاً حسناً } أي : رباها تربية حسنة ، فكانت تشب في اليوم ما يشب المولود في العام ، { وكفلها زكريا } أي : ضمها إليه وقام بأمرها . وقرأ عاصم - في رواية ابن عياش - بشدِّ الفاء ، أي : وكفَّلها اللّهُ زكريا ، أي : جعله كافلاً لها وحاضناً . رُوِيَ : أنه لما ضمها إليه بنى لها بيتاً ، واسترضع لها ، فلما بلغت ، بنى لها محراباً في المسجد ، وجعل بابه في وسطه لا يرقى إليها إلا بسلم ، ولا يصعد إليها غيره ، وكان يأتيها بطعامها وشرابها كل يوم ، وكان إذا خرج أغلق عليها سبعة أبواب . { كلما دخل عليها زكريا المحراب } ليأتيها بطعامها ، { وجد عندها رزقاً } أي : فاكهة في غير حينها ، يجد فاكهة الشتاء في الصيف ، وبالعكس ، { قال يا مريم أنى لك هذا } أي : من أين لك هذا الرزق الآتي في غير أوانه ، والأبواب مغلقة عليك ؟ { قالت هو من عند الله } فلا يُستبعد ، قيل : تكلمت صغيرة ، وقيل : لم ترضع ثدياً قط ، خلاف ما تقدم ، وكان رزقها ينزل عليها من الجنة . ثم قالت : { إن الله يرزق من يشاء بغير حساب } أي : بغير تقدير ، أو بغير استحقاق تفضلاً منه ، وقوله : { كلما } : يقتضي التكرار ، وفيه إشارة إلى أن زكريا لم يَذَرْ تَعهُّدهَا ، ولم يعتمد على ما كان يجد عندها ، بل كان يتفقد حالها كل وقت ، لأن الكرامات للأولياء ليس مما يجب أن تدوم قطعاً ، بل يجوز أن يظهر ذلك عليهم دائماً وألا يظهر ، فما كان زكريا معتمداً على ذلك ، فيترك تفقد حالها ، ثم كان يجدد السؤال بقوله : { يا مريم أنى لك هذا } ، لجواز أن يكون الذي هو اليوم لا على الوجه الذي كان بالأمسن فإنه لا واجب على الله - سبحانه - قاله القشيري . رَوى جابر بنُ عبد الله أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أقام أياماً لم يطعم الطعام ، فقام في منازل أزواجه ، فلم يُصِبْ عندهم شيئاً ، فأتى فاطمة فقال : " يا بُنيةُ ، هل عندك شيء ؟ " فقالت : لا والله ، بأبي أنت وأمي ، فلما خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم ، بعثت إليها جارتُها برَغِيفَيْن وبِضْعَة لَحْم ، فبعثت حَسَناً وحُسَيْناً إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فجاء ، فكشفت له الجفنة ، فإذا الجفنة مملوءة خُبْزاً ولَحْماً ، فَبُهِتَتْ ، وعرفت أنَّهَا بَرَكَةٌ مِن اللهِ تعالى ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " من أين لك هذا يا بُنَيْةُ ؟ " قالت : { من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب } ، فحمد الله تعالى ، وقال : " الحمْدُ للّهِ الَّذِي جَعلَك شَبِيهَةً بسَيِّدَةِ بَنِي إسْرَائِيل ، فإنها كانت إذا رزقها الله شيئاً قالت : { هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب } " ثم بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى عَليٍّ رضي الله عنه . ثم أكل أهلُ البيت كلهم ، وجميع أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وبقيت الجَفْنة كما هي ، فأَوْسَعَتْ علَى الجيران ، وجعل الله فيها بركة وخيراً . انتهى . الإشارة : { إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين } ، إنما اصطفى الحق تعالى هؤلاء الرسل لكونهم قد أظهروا الدين بعد انطماس أنواره ، وجددوه بعد خمود أسراره ، هم أئمة الهدى ومقتبس أنوار الاقتداء ، فكل من كان على قدمهم من هذه الأمة المحمدية ، بحيث يجدد للناس دينهم ، ويُبين للناس معالم الطريق وطريق السلوك إلى عين التحقيق ، فهو ممن اصطفاه الله على عالمي زمانه . وفي الحيدث : " إنَّ الله يَبْعَثُ عَلَى رَأسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لهذه الأمة دِينَهَا " قال الحريري : مات الحسن البصري عشية جمعة - أي : بعد زوالها - فلما صلّى الناس الجمعة حملوه ، فلم يترك الناس صلاة العصر في مسجد الجماعة بالبصرة منذ كان الإسلام ، إلا يوم مات الحسن ، واتبع الناس جنازته ، فلم يحضر أحد في المسجد صلاة العصر ، قال : وسمعت منادياً ينادي : { إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين } ، واصطفى الحسن على أهل زمانه . قلت : والحسن البصري هو الذي أظهر علم التصوّف ، وتكلم فيه وهذبه . قال في القوت : وهو إمامنا في هذا العلم - يعني علم التصوف . وقوله تعالى : { إذ قالت امرأة عمران } … الآية . كُلُّ من ذنر نفسه وحررها لخدمة مولاه ، تقبلها الله منه بقبول حسن ، وأنبت فيها المعرفة نباتاً حسناً ، وكفلها بحفظه ورعايته ، وضمها إليه بسابق عنايته ، ورزقها من طُرَفِ الحكم وفواكه العلوم ، مما لا يتحيط به العقول وغاية الفهوم ، فإذا قال لنفسه : من أين لك هذا ؟ { قالت : هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب } . وأنشدوا : @ فَلاَ عَمَلٌ مِنِّي إليه اكْتَسَبْتُه سِوَى مَحْضِ فَضْلٍ ، لا بشيءٍ يُعلَّلُ @@ وقال القشيري : قوله تعالى : { فتقبلها ربها بقبول حسن } ، يقال : منَ القبول الحسن أنه لم يطرح كَلَّهَا وشَغْلَهَا على زكريا ، فكان إذا دخل عليها زكريا ليتعاهدها بطعام وجد عندها رزقاً ، ليعلَم العالمون أن الله - تعالى - لا يُلقى شغل أوليائه على غيره ، ومن خدم وليّاً من أوليائه كان هو في رفق الولي ، وهذه إشارة لمن يخدم الفقراء ، يعلم أنه في رفقهم ، لا أن الفقراء تحت رفقه . هـ . قال أهل التفسير : فلما رأى زكريا ما يأتي لمريم من الفواكه في غير أوانها ، قال : إن الذي قدر على أن يأتي مريم بالفاكهة في غير وقتها ، قادر على أن يصلح زوجتي ، ويهب لي ولداً على الكبر . فطلب الولد .