Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 38-41)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : { هنالك } : اسم إِشارة للبعيد ، والكاف : حرف خطاب ، يطابق المخاطب في التذكير والتأنيث والإفراد والجمع في الغالب . والمحراب : مفعال ، من الحرب ، وهو الموضع المعد للعبادة ، كالمسجد ونحوه ، سمي به ، لأنه محل محاربة الشيطان . { والملائكة } : جمع تكسير ، يجوز في فعله التذكير والتأنيث ، وهو أحسن ، تقول : قام الرجال وقامت الرجال ، فمن قرأ : { فنادته الملائكة } ، فعلى تأويل الجماعة ، ومن قرأ : { فناداه } ، أراد تنزيه الملائكة عن التأنيث ، ردّاً على الكفار . والمراد هنا : جبريل عليه السلام كقوله : { يُنَزِّلُ الْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ } [ النّحل : 2 ] ، { وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ } [ آل عِمرَان : 42 ] ، و { بشر } : فيها لغتان : التخفيف ، وهي لغة تهامة ، تقول : بَشَرَ يَبْشُر - بضم الشين في المضارع ، والتشديد ، وهو أفصح ، تقول بَشْر يُبَشّر تبشيراً . يقول الحقّ جلّ جلاله : مخبراً عن زكريا عليه السلام : { هنالك } أي : في ذلك الوقت الذي رأى من الخوارق عند مريم ، { دعا زكريا ربه } ، فدخل المحراب ، وغلق الأبواب ، وقال في مناجاته : { ربّ هب لي من لدنك ذرية طيبة } ، كما وهبتها لحنَّة العجوز العاقر ، { إنك سميع الدعاء } أي : مجيبه فاسمع دعائي يا مجيب ، { فنادته الملائكة } ، وهو جبريل ، لأنه رئيس الملائكة ، والعرب تنادي الرئيس بلفظ الجميع إذ لا يخلو من أصحاب ، { وهو قائم يصلي في المحراب } رُوِيَ : أنه كان قائماً يصلّي في محرابه ، فدخل عليه شاب ، عليه ثياب بيض ، ففزع منه ، فناداه ، وقال له : { إن الله يبشرك بيحيى } ، سمي به لأن الله تعالى أحيا به عقم أمه ، أو لأن الله تعالى أحيا قلبه بمعرفته ، فلم يهم بمعصية قط ، أو لأنه استشهد ، والشهداء أحياء . { مصدقاً بكلمة من الله } وهو عيسى ، لأنه كان بكلمة : كُنْ ، من غير سبب عادي ، و { سيداً } أي : يسود قومه يوفُوقهم ، و { حصوراً } ، أي : مبالغاً في حبس النفس عن الشهوات والملاهي . رُوِيَ أنه مرَّ في صباه على صبيان ، فدعوه إلى اللعب ، فقال : ما للعب خلقت ، أو عِنِّيناً ، رُوِيَ : " أنه كان له ذَكَرٌ كالقذاة " رواه ابن عباس . وقال في الأساس : رجل حصور : لا يرغب في النساء . قيل : كان ذلك فضيلة في تلك الشريعة ، بخلاف شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وفي الورتجبي : الحصور : الذي يملك ولا يُملك . وقال القشيري : { حصوراً } : أي : مُعْتَقاً من الشهوات ، مَكْفِيّاً أحكام البشرية ، مع كونه من جملة البشر ، { ونبيّاً من الصالحين } الذي صلحوا للنبوة وتأهلوا للحضرة . ولما سمع البشارة هزَّه الفرحُ فقال : يا { رب أنى يكون لي غلام } أي : من أين يكون لي غلام ؟ ! قاله استعظاماً أو تعجباً أو استفهاماً عن كيفية حدوثه . هل مع كبر السن والعقم ، أو مع زوالهما . { وقد بلغني الكبر } ، وكان له تسع وتسعون سنة ، وقيل : مائة وعشرون ، { وامرأتي عاقر } لا تلد ، ولم يقل : عاقرة ، لأنه وصف خاص بالنساء . قال له جبريل : { كذلك الله يفعل ما يشاء } من العجائب والخوارق ، فيخلق الولد من العاقر والشيخ الفاني ، أو الأمر كذلك ، أي : كما أخبرتك ، ثم استأنف : { الله يفعل ما يشاء } . ولما تحقق بالبشارة طلبَ العلامةَ ، فقال : { رب اجعل لي آية } أعرف بها حمل المرأة ، لاستقبله بالبشاشة والشكر ، { قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام } أي : لا تقدر على كلام الناس ثلاثاً ، فحبس لسانه عن الكلام دون الذكر والشكر ، ليخلص المدة للذكر والشكر ، { إلا رمزاً } بيدٍ أورأس أو حاجب أو عين . { واذكر ربك كثيراً } في هذه المدة التي حبِسْتَ فيها عن الكلام ، وهو يُبين الغرض من الحبس عن الكلام . وتقييد الأمر بالكثرة يدل على أنه لا يفيد التكرار . { وسبّح بالعشي } أي : من الزوال إلى الغروب ، أو من العصر إلى جزء الليل ، { والإِبكار } من الفجر إلى الضحى ، وقيل : كانت صلاتهم ركعتين في الفجر وركعتين في المغرب ، ويؤيد هذا قوله تعالى في الآية الأخرى : { فَأْوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً } [ مريم : 11 ] . والله تعالى أعلم . الإشارة : الأصلاب الروحانية كالأصلاب الجسمانية ، منها ما تكون عقيمة مع كمالها ، ومنها ما تكون لها ولد أو ولدان ، ومنها ما تكون لها أولاد كثيرة ، ويؤخذ من قضية السيد زكريا عليه السلام : طلب الولد إذا خاف الولي اندراس علمه أو حاله بانقطاع نَسْله الروحاني ، ولا شك في فضل بقاء النسل الحسيّ أو المعنوي ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : " إِذَا مَاتَ العبدُ انْقَطَعَ عمله إلا مِنْ ثَلاَثٍ : صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ ، أَوْ وَلَدٍ صَالِح يَدْعُو لَهُ ، أوْ عِلَم يُنْتَفَعُ به " وشمل الولد البشري والروحاني ، وقال عليه الصلاة والسلام لسيدنا عليّ - كَرّم الله وجهه - : " لأنْ يَهْدِيَ اللّهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِداً خَيْرٌ لكَ مِنْ حُمْر النَعَمِ " . وقال بعض الشعراء : @ وَالمَرْءُ في مِيزانِه أتْباعُهُ فاقْدرْ إِذَنُ قَدْرَ النبيّ مُحمَّد @@ وقد سلَك هذا المسلك القطبُ بن مشيش في طلب الولد الروحاني ، حيث قال في تَصْلِيَته المشهورة : اسمه ندائي بما سمعت به نداء عبدك زكريا . فأجابه الحق تعالى بشيخ المشايخ القطب الشاذلي . وغير واحد من الأولياء دخل محراب الحضرة ، ونارى نداءً خفيّاً في صلاة الفكر ، فأجابته الهواتف في الحال ، بلسان الحال أو المقال : إن الله يبشرك بمن يحيي علمك ويرث حالك ، مصدقاً بكلمة من الله ، وهم أولياء الله ، وسيداً وحصوراً عن شواغل الحس ، مستغرقاً في مشاهدة القرب والأنس ، ينبئ بعلم الغيوب ، ويصلح خلل القلوب ، فإذا استعظم ذلك واستغربه ، قيل له : الأمر كذلك ، الله يفعل ما يشاء إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون ، فحسبك الاشتغال بذكر الله ، والغيبة عما سواه . وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق .