Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 45-51)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : { إذ قالت } : بدل من { وإذ قالت } الأولى ، ويبعد إبدالها من { إذ يختصمون } ، و { المسيح } وما بعده : إخبار عن اسمه ، أو { عيسى } : خبر عن مضمر ، و { ابن مريم } : صفته ، و { المسيح } : فعيل بمعنى مفعول ، لأنه مُسِحَ من الأقذار ، أي : طهر منها ، أو مسح بالبركة ، أو كان مسيح القدم ، لا أخمص له ، أو مسحه جبريل بجناحه من الشيطان . أو بمعنى فاعل لأنه كان يمسح المرضى فيبرؤون ، أو يمسح عين الأعمى فيبصر ، أو لأنه كان يسيح في الأرض ولا يقيم في مكان فتكون الميم زائدة . وأما المسيح الدجّال فإنه ممسوح إحدى العينين ، أو لأنه يطوف الأرض ويمسحها ، إلا مكة والمدينة ، والحاصل : أن عيسى مسيح الخير ، والدجال مسيح الشر ، ولذلك قيل : إن المسيح يقتل المسيح . و { وجيهاً } : حال من كلمة لتخصيصه بالصفة ، و { في المهد وكهلاً } : حالان ، أي : طفلاً وكهلاً ، والمهد : ما يمهد للصبي . و { رسولاً } : مفعولٌ لمحذوف ، أي : ونجعله رسولاً ، و { مصدقاً } : عطف على { رسولاً } ، و { لأُحِلَّ } : متعلق بمحذوف ، أي : وجئتكم لأُحل ، أو معطوف على معنى مصدقاً ، كقولهم : جئتك معتذراً ، أو لأطيب قلبك . يقول الحقّ جلّ جلاله : { و } اذكر أيضاً { إذ قالت الملائكة } في بشارتهم لمريم : { يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه } ، أي : بولد يتكوَّن بكلمة من الله كن فيكون ، وقيل : إنما سمى كلمة لكونه مظهراً لكلمة التكوين ، متحققاً ومتصرفاً بها . ولذلك كان يظهر عليه خوارق الأقدار أكثر من غيره من الأنبياء ، { اسمه المسيح } ، واسمه { عيسى ابن مريم } ، وإنما قال : { ابن مريم } والخطاب لها ، تنبيهاً على أنه يولد من غير أب إذ الأولاد إنما تنسب لأبائها إلا إذا فقد الأب . ثم وصف الولد بقوله : { وجيهاً في الدنيا والآخرة } أي : شريفاً في الدنيا بالنبوة والرسالة ، وفي الآخرة بالشفاعة لمن تبعه . ويكون { من المقربين } إلى الله تعالى في الدارين . { ويكلم الناس } طفلاً { في المهد } على وجه خَرْق العادة في تبرئة أمه ، { وكهلاً } إذا كمل عقله قبل أن يرفع ، أو بعد الرفع والنزول ، لأن الكهولة بعد الأربعين ، والتحقيق : أنه بشرها بنبوة عيسى وكلامه في المهد ، معجزةً ، وفي الكهولة دعوة قبل الرفع وبعده ، وما قاربَ يُعطي حكمه ، وحال كونه { من الصالحين } لحضرة رب العالمين . ولما سمعت البشارة دهشت و { قالت } : يا { رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر } ، والخطاب لله ، فانية عن الواسطة جبريل ، والاستفهام تعجباً ، أو عن الكيفية : هل يكون بتزوج أم لا ؟ { قال } لها الملك : { كذلك الله يخلق ما يشاء } . أو الأمر كذلك كما تقولين ، لكن { الله يخلق ما يشاء } لا يحتاج إلى وسائط ولا أسباب ، بل { إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون } ، { ويعلمه الكتاب } أي : الكتابة والخط ، { والحكمة } أي : النبوة ، أو الإصابة في الرأي : { والتوراة والإنجيل } . { و } يجعله { رسولاً إلى بني إسرائيل } . وكان أول رسل بني إسرائيل يوسف ، وآخرهم عيسى - عليهما السلام - ، وقال : عليه الصلاة والسلام : " بُعثْتُ على إِثْرِ ثمانية آلاف نبيّ ، أربعة آلاف من بني إسرائيل " فإذا بعث إليهم قال : { أني قد جئتكم بآية من ربكم } أي : بأني قد جئتكم آية من ربكم ، قالوا : وما هي ؟ قال : { أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير } كصورته ، { فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله } ، وكان يخلق لهم صورة الخفاش ، لأنها أكمل الطيرلأن لها ثدياً وأسناناً وتحيض وتطير ، فيكون أبلغ في المعجزة ، وكان يطير ما دام الناس ينظرون إليه ، فإذا غاب عنهم سقط ميتاً ليتميز فعل الحق من فعل الخلق ، ثم قال لهم : ولي معجزة أخرى أني { أبرئ الأكمه } الذي ولد أعمى ، فأحرى غيره { والأبرص } الذي فيه وضح . وخصهما لأنهما عاهتان معضلتان . وكان الغالب في زمن عيسى الطب ، فأراهم المعجزة من جنس ذلك . رُوِي : أنه ربما اجتمع عليه من المرضى في اليوم الواحد ألوف ، من أطاف منهم البلوغ أتاه ، ومن لم يطق أتاه عيسى عليه السلام ، وإنما كان يداويهم بالدعاء على شرط الإسلام . { وأحيي الموتى بإذن الله } لا بقدرتي دفعاً لتوهم الألوهية ، فإن الإحياء ليس من طوق البشر . رُوِيَ أنه أحيا أربعة أنفس : العازر ، وكان صديقاً له ، فأرسلت أخته إلى عيسى أن أخاك العازر يموت ، فأتاه من مسيرة ثلاثة أيام فوجده مات ، فقال لأخته : انطلقي بنا إلى قبره ، وهو في صخرة مطبقة ، فدعا الله تعالى ، فقام العازر يقطر ودكه ، فعاش وولده له . و ابن العجوز ، مُر بجنازته على عيسى عليه السلام فدعا الله تعالى ، فجلس على سريره ، ونزل عن أعناق الرجال ، ولبس ثيابه ، وحمل سريره على عنقه ، ورجع إلى أهله ، وبقي حتى وُلد له . وابنة العاشر ، كان يأخذ العشور ، قيل له : أتحييها ، وقد ماتت أمس ؟ فدعا الله تعالى ، فعاشت وولد لها . وسام بن نوح ، دعا باسم الله الأعظم ، فخرج من قبره ، وقد شاب نصف رأسه ، فقال : أقامت الساعة ؟ قال : لا ، لكني دعوت الله فأحياك ، ما لي أرى الشيب في رأسك ، ولم يكن في زمانك ؟ قال : سمعت الصيحة ، فظننت أن الساعة قامت فشبت من هولها . قيل : كان يحيي الموتى بـ { يا حي يا قيوم } . { وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم } ، لما أبرأ الأكمه والأبرص قالوا ، هذا سحر ، أخبرنا بما نأكل وما ندخر ؟ فكان يُخبر الرجل بما يأكل في غدائه وعشائه ، ورُوِيَ أنه لما كان في المكتب ، كان يحدث الغلمان بما يصنع لهم آباؤهم من الطعام ، فيقول للغلام : انطلق … غداء أهلك كذا وكذا ، فيقول أهله : من أخبرك بهذا ؟ قال : عيسى ، فحبسوا صبيانهم عنه ، وقالوا : لا تلعبوا مع هذا الساحر ، فجمعوهم في بيت ، فجاء عيسى يطلبهم ، فقالوا : ليسوا ههنا ، قال : ماذا في البيت ؟ قالوا : خنازير ، قال عيسى : كذلك يكونون ، ففتحوا الباب ، فإذا هم خنازير ، فهموا بقتله ، فهربت به أمه إلى مصر . قاله السُّدي . ثم قال لهم : { إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين } ، فإن غير المؤمنين لا ينتفع بالمعجزات لعناده ، { ومصدقاً لما بين يدي من التوراة } أي : وجئتكم مصدقاً للتوراة ، وشاهداً على صحتها ، { ولأُحلَّ لكم بعض الذي حُرم عليكم } في شريعة موسى عليه السلام كالشحوم والثروب ولحم الإبل والعمل في السبت . وهذا يدل على أنه ناسخ للتوراة ، ولا يخل بكونه مصدقاً له ، كما لا يخل نسخ القرآن بعضه لبعض بصحته . فإن النسخ في الحقيقة : بيان لانتهاء العمل بذلك الحكم . ثم قال لهم : { و } قد { جئتكم بآية } واضحة { من ربكم } ، قد شاهدتموها بأعينكم ، فما بقي إلا عنادكم ، { فاتقوا الله وأطيعون } . ثم دعاهم إلى التوحيد بعد بيان الحجة فقال : { إن الله ربي وربكم فاعبدوه } ولا تعبدوا معه سواه ، { هذا صراط مستقيم } لا عوج فيه . قال البيضاوي : أي : لما جئتكم بالمعجزات القاهرة والآيات الباهرة ، { فاتقوا الله } في المخالفة ، { وأطيعون } فيما أدعوكم إليه ، ثم شرع في الدعوة وأشار إليها بالقول المجمل ، فقال : { إن الله ربي وربكم } أشار إلى استكمال القوة النظرية بالاعتقاد الحق الذي غايتُه التوحيد ، وقال : { فاعبدوه } إشارة إلى استكمال القوة العملية بملازمة الطاعة ، التي هي الإتيان بالأوامر والانتهاء عن المناهي ، ثم قرر ذلك بأن الجمع بين الأمرين هو الطريق المشهود له بالاستقامة ، ونظيره : قوله عليه الصلاة والسلام : " قُلْ آمَنْتُ بِاللّهِ ثم اسْتَقِمْ " . الإشارة : كل من انقطع بكليته إلى مولاه ، وصدف عن حظوظه ، وهواه ، وأفنى شبابه في طاعة ربه ، وجعل يلتمس في حياته دواء قلبه ، تحققت له البشارة في العاجل والآجل ، وحصل له التطهير من درن العيوب والرذائل ، ورزقه من فواكه العلوم ، ما تتضاءل دون إدراكه غاية الفهوم ، هذه مريم البتول أفنت شبابها في طاعة مولاها ، فقربها إليه وتولاها ، وبشرها بالاصطفائية والتطهير ، وأمرها شكراً بالجد والتشمير ، ثم بشّرها ثانياً بالولد النزيه والسيد النبيه ، روح الله وكلمة الله ، من غير أب ولا سبب ، ولا معالجة ولا تعب ، أمره بأمر الله ، يبئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله ، هذا كله ببركة الانقطاع وسر الاتباع . قال صلى الله عليه وسلم : " من انقطع إلى اللّهِ كَفَاه الله كلَّ مُؤْنة ، ورَزقه من حيثُ لا يحتسِبُ ، ومن انقطعَ إلى الدنيا وكَلَه الله تعالى إليها " . وقال بعضهم : صِدْقُ المجاهدة : الانقطاع إليه من كل شيء سواه . فالانقطاع إلى الله في الصغر يخدم على الإنسان في حال الكبر ، ومعاصي الصغر تجر الوبال إلى الكبر ، فكما أن عيسى عليه الصلاة والسلام كان يبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله ، كذلك من انقطع بكُلِّيته إلى الله أبرأ القلوبَ السقيمة بإذن الله ، وأحيا موتى القلوب بذكر الله ، وأخبر بالغيوب وما تدخره ضمائر القلوب ، يدل على طاعة الله ، ويدعو بحاله ومقاله إلى الله ، يهدي الناس إلى الصراط المستقيم ، ويوصل من اتبعه إلى حضرة النعيم . وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق .