Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 52-54)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : { من أنصاري إلى الله } : الجار يتعلق بحال محذوفة ، أي : ذاهباً إلى الله إلى نَصْر دينه ، أو مُضيفاً نفسه إلى الله ، أو ملتجئاً إلى الله ، أو يتعلق بـ { أنصاري } مضمِّناً معنى الإضافة ، أي : من يضيف نفسه إلى الله في نصره . وحواري الرجل : خاصته ، الذي يستعين بهم في نوائبه ، وفي الحديث عنه - عليه الصلاة والسلام - : " لكلِّ نبي حَوَاري ، وحَوارِيي ، الزُّبَيْر " وحواريوا عيسى : أصحابه الذين نصروه ، وسموا بذلك لخلوص نيتهم ونقاء سريرتهم . والحَوَرُ : البياض الخالص ، وكل شيء بيَّضته فقد حوَّرْته ، ويقال للبيضاء من النساء : حوارية . وقيل : كان الحواريون قًصَّارين ، يُحَوِّرُون الثياب ، أي : يبيضونها ، وقيل : كانوا ملوكاً يلبسون البياض . يقول الحقّ جلّ جلاله : { فلما أحسن عيسى } من بني إسرائيل { الكفر } ، وتحققه تَحَقُّقَ ما يدرك بالحواس ، بعدما بُعث إليهم ، وأرادوا قتله ، فرَّ منهم واستنصر عليهم ، و { قال من أنصاري } ملجئاً { إلى الله } ، أو ذاهباً إلى نصر دينه ، { قال الحواريون نحن أنصار الله } أي : أنصار دينه ، { آمنا بالله وأشهد } علينا بأننا { مسلمون } لتشهد لنا يوم القيامة ، حين يشهد الرسل لقومهم ، { ربنا آمنا بما أنزلت } على نبيك من الأحكام ، { واتبعنا الرسول } عيسى عليه السلام ، { فاكتبنا مع الشاهدين } بوحدانيتك ، أو مع الذين يشهدون لأنبيائك بالصدق ، أو مع الأنبياء الذين يشهدون لأتباعهم ، أو مع أمة محمد - عليه الصلاة والسلام - فإنهم شهداء على الناس . قال عطاء : سَلَمَتْ مريمُ عيسى إلى أعمال شتى ، وآخر ما دفعته إلى الحواريين ، وكانوا قصَّارين وصباغين ، فأراد مُعلّم عيسى السفر ، فقال لعيسى : عندي ثياب كثيرة مختلفة الألوان ، وقد علمتك الحرفة فاصبغها ، فطبخ جُبّاً ، واحداً ، وأدخل فيه جميع الثياب ، وقال لها : كوني على ما أريد ، فقدم الحواريُ ، والثياب كلها في الجب ، فلما رآها قال : قد أفسدتها ، فأخرج عيسى ثوباً أصفر ، وأحمر ، وأخضر ، إلى غير ذلك ، فعجب الحواري ، وعلم أنَّ ذلك من الله تعالى ، ودعا الناس إليه ، وآمنوا به ، ونصروه ، فهم الحواريون . ولما أخرجه بنو إسرائيل عاد إليهم مع الحواريين ، وصاح فيهم بالدعوة ، فهمُّوا بقتله ، وتواطؤوا عليه ، { ومكروا } أي : دبروا الحيل في قتله ، { ومكر الله } بهم ، أي : استدرجهم حتى قتلوا صاحبهم ، ورُفع عيسى عليه السلام ، فالمكر في الأصل : هو حيلة يجلب بها غيره إلى مضرة . ولا تُسند إلى الله إلى على حسب المقابلة والازدواج : كقوله : { يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ } النِّساء : 142 ] ، وقوله : { اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ } [ البقرة : 15 ] ، { والله خير الماكرين } . أي : أشدهم مكراً ، وأقواهم على إيصال الضرر من حيث لا يحتسب ، أو أفضل المجازين بالعقوبة لأنه لا أحد أقدر على ذلك منه . تنبيه : قيل للجنيد رضي الله عنه : كيف رَضِيَ المكرَ لنفسه ، وقد عابه على غيره ؟ قال : لا أدري ، ولكن أنشدني فلان للطبرانية : @ فديتُك قد جُبِلْتُ على هواكَ ونفْسِي ما تَحِنُّ إلى سِوَاكَ أُحِبّك ، لا بِبَعْضِي بل بكُلِّي وإن يُبْقِ حُبُّكَ لي حِرَاكَا وَيَقْبُحُ مِنْ سِوَاكَ الْفِعْلُ عِنْدي وتَفْعَلُهُ فَيَحْسُنُ مِنْكَ ذَاكَ @@ فقال له السائل : أسألُك عن القرآن ، وتجيبني بشعر الطبرانية ؟ قال : ويحك ، قد أجبتك إن كنت تعقل . إنَّ تخليته إياهم مع المكرية ، مكرٌ منه بهم . هـ . قلت : وجه الشاهد في قوله : وتفعله فيحسن منك ذاك ، ومضمن جوابه : أن فعل الله كله حسن في غاية الإتقان ، لا عيب فيه ولا نقصان ، كما قال صاحب العينية : @ وَكلُّ قبِيح إنْ نَسَبْتَ لِحُسْنِهِ أَتَتْكَ مَعَانِي الْحُسْنِ فِيهِ تُسَارعُ يُكَمِّلُ نُقصَانَ الْقَبِيحِ جَمَالُهُ فَما ثَمَّ نُقْصَانٌ وَلاَ ثَمَّ بَاشِعُ @@ وتخليته تعالى إياهم مع المكر ، تسبب عنه الرفع إلى السماء ، وإبقاء عيسى حيّاً إلى آخر الزمان ، حتى ينزل خليفة عن نبينا - عليه الصلاة والسلام - ، فكان ذلك في غاية الكمال والإتقان ، لكن لا يفطن لهذا إلا أهل العرفان . الإشارة : يجب على المريد الصادق الذي يطلب دواء قلبه ، أن يفر من الوطن الذي يظهر فيه الإنكار ، إلى الوطن الذي يكثر فيه الإقرار ، يفر إلى من يعينه على نصر الدين من الأبرار المقربين ، الذين يجعلهم الله حواري الدين ، ففي الحديث الصحيح : " خَيْرُ مالِ المُسْلِم غَنَمٌ يَتْبَعُ بها شَعَفَ الجِبَالِ يَفِرُّ مِنَ الْفِتَنِ " فالمؤمن يفر بدينه من شاهق جبل إلى شاهق جبل حتى يدركه الموت ، وما زالت الأكابر تفر بنفسها إلى شواهق الجبال ، يهربون من حس الدنيا وشغبها ، ولا يرافقون إلا من يستعين بهم على ذكر الله ، وهم أهل التجريد ، الذي اصطفاهم الله لخالص التوحيد ، فروا إلى الله فآواهم الله ، قالوا : { آمنا بالله وأشهد بأنا مسلمون } منقادون لما تريد منا ، { ربنا آمنا بما أنزلت } من الأحكام الجلالية والجمالية ، قد عرفناك في جميع الحالات ، { فاكتبنا مع الشاهدين } لحضرتك ، المنعمين بشهود ذاتك ، ومن مكر بنا من القواطع الخفية فَغَيَّبنا عنه بشهود أنوارك القدسية ، وانصرنا فإنك خير الناصرين ، ولا تدعنا مع مكر الماكرين يا رب العالمين .