Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 96-97)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : { بكة } : لغة في مكة ، والعرب تعاقب بين الباء والميم ، تقول : ضربة لازم ولازب ، وأغبَطَتْ عليه الحُمِّى وأغْمَطَتْ ، وقيل : { مكة } بالميم : اسم للبلد كله ، وبكة : اسم لموضع البيت ، سميت بذلك لأنها تبك أعناق الجبابرة - أي : تدقها - فما قصدها جبَّار بسوء إلا قصمه الله . و { مباركاً } : حال من الضمير في المجرور ، والعامل فيه الاستقرار ، أي : الذي استقر ببكة مباركاً ، و { مقام إبراهيم } : مبتدأ ، والخبر محذوف ، أي : منها مقام إبراهيم ، أو بدل من { آيات } ، بدل البعض من الكل ، أو عطف بيان ، على أن المراد بالآيات : أثر القدم في الصخرة الصمَّاء ، وغوصُوها فيها إلى الكعبين ، وتخصيصُها بهذه المزيَّة من بين الصخور ، وإبقاؤه دون سائر آثار الأنبياء ، وحفظه مع كثرة أعدائه ألوف سنة ، فكان مقام إبراهيم ، وإن كان مفرداً ، في قوة الجمع ، ويدل عليه أنه قرئ { آية } : بالتوحيد . وقيل : { الآيات } : مقام إبراهيم ، وأمْنُ من دخله ، فعلى هذا يكون : { ومن دخله } ، عطفاً على { مقام } ، وعلى الأول : استئنافاً . و { حج البيت } مبتدأ ، و { لله } : خبر ، والفتح لغة الحجاز ، والكسر لغة نجد ، و { من استطاع } : بدل من { الناس } ، وقيل : فاعل . يقول الحقّ جلّ جلاله : { إن أول بيت وضع } في الأرض { للناس } للذي استقر بمكة ، وبعده بيت المقدس ، وبينهما أربعون سنة . بنت الأولَ الملائكة حيالَ البيت المعمور ، وأمر اللّهُ مَنْ في الأرض أن يطوفوا به كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور ، ثم بُنِيَ الثاني . وقيل : بناهما آدم عليه السلام ثم جدَّد الأول إبراهيمُ . حال كونه { مباركاً } لأنه يتضاعف فيه الحسنات ، بكل واحدة مائة ألف ، وتكفر فيه السيئات ، وتنزل في الرحمات ، وتتوارد فيه النفخات . { فيه آيات بينات } واضحات ، منها : الحجر الذي هو { مقام إبراهيم } ، وهو الذي قام عليه حين رفع القواعد من البيت ، فكان كلما طال البناء ارتفع به الحجر في الهواء ، حتى أكمل البناء ، وغرقت فيه قدمه كأنه طين ، ومنها : أن الطير لا تعلوه ، ومنها : إهلاك أهل الفيل وردُّ الجبابرة عنه ، ونبع زمزم لهاجر بهمز جبريل عليه السلام ، وحفر عبد المطلب لها بعد دُثُورها ، وأن ماءها ينفع لما شُرب له ، { ومن دخله كان آمناً } من العقاب في الدارين لدعاء الخليل : { رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ ءَامِناً } [ إبراهيم : 35 ] ، فكان في الجاهلية كل من فعل جريمةً ، ثم لجأ إليه لا يُهَاج ولا يعاقب ما دام به ، وأما في الإسلام فإن الحرم لا يمنع من الحدود ولا من القصاص ، وقال أبو حنيفة : الحكم باق ، وإن من وجب عليه حد أو قصاص فدخل الحرم لا يهاج ، ولكن يُضيَّق عليه ، فلا يطعم ولا يباع له حتى يخرج . قال - عليه الصلاة والسلام : " مَنْ مَاتَ في أحد الحرمين بعثه اللّهُ من الآمنين " وقال أيضاً : " مَنْ حَجَّ هذَا البَيْتَ - فَلَمْ يَرْفُثْ ، وَلَمْ يَفْسُقْ ، خَرَجَ من ذَنُوبِه كَيَوْمِ وَلَدتهُ أُمُّه " . { ولله على الناس حج البيت } فرض عين على { من استطاع إليه سبيلاً } بالقدرة على الوصول بصحة البدن ، راجلاً أو راكباً مع الزاد المُبلِّغ ، والأمن على النفس والمال والدين . وقيل : الاستطاعة : الزاد والراحة . { ومن } تركه ، و { كفر } به ، كاليهود والنصارى ، وكل من جحده ، { فإن الله غني } عنه ، و { عن } حجه ، وعن جميع { العالمين } ، أو عبر بالكفر عن الترك ، تغليظاً كقوله : " مَنْ تَرَكَ الصَّلاةَ فَقَدْ كَفَر " رُوِيَ أنه - عليه الصلاة والسلام - لما نزل صدر الآية - جمع أرباب الملل ، فخطبهم ، وقال : " إن الله كتب عليكم الحج فحجوا " ، فآمنت به ملة واحدة ، وكفرت به خمس ملل ، فنزل { ومن كفر … } الخ . الإشارة : قد وضع الله للناس بيتين : أحدهما حسي ، وهو الكعبة ، والآخر معنوي ، وهو القلب ، الذي هو بيت الرب ، فما دام بيت القلب خالياً من نور الرب اشتاق إلى حج البيت الحسي ، فإذا تعمر البيت بنور ساكنه ، صار قبلة لغيره ، واستغنى عن الالتفات إلى غير نور ربه ، بل صار كعبة تطوف به الواردات والأنوار ، وتحفه المعارف والعلوم والأسرار ، ثم يصير قطب دائرة الأكوان ، وتدور عليه من كل جانب ومكان ، فكيف يشتاق هذا إلى الكعبة الحسية ، وقد طافت به دائرة الوفود الكونية ؟ ولله در الحلاج رضي الله عنه حيث قال : @ يَا لاَئِمِي لا تَلُمْني في هواه فَلَوْ عايَنْتَ منه الذي عاينْتَ لم تَلُمِ للنَّاسِ حجٍّ ولي حجٍّ إلى سَكَنِي تُهْدَى الأضَاحِي ، وأُهْدِي مُهْجِتِي ودَمِي يطوفُ بالبيت قومٌ لا بجارحةٍ ، بالله طافوا فأغنَاهم عن الحَرَمِ @@ في هذا البيت آيات واضحات ، وهو إشراق شموس المعارف والأنوار ، في فضاه سماء الأرواح والأسرار ، وسطوع أنوار قمر التوحيد في أرض التجريد والتفريد ، وظهور أنوار نجوم العلم والحِكم ، في أفق سماء ارتفاع الهمم ، فهذا كان مقام إبراهيم ، إما الموحدين ، فمن دخله كان آمناً من الطرد والبعاد إلى يوم الدين ، ومن كفر وجوده فإن الله غني عن العالمين . قال في الحاشية في قوله : { ومَنْ دَخَلَه كان آمناً } ، قيل : وهكذا من دخل في قلب وليٍّ من أوليائه ، فإن قلب العارف حرم المراقبات والمشاهدات . هـ . وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق .