Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 31, Ayat: 12-13)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : يا بُني فيه ثلاث قراءات كسر الياء ، وفتحها مُشَدَّدةً ، وإسكانها . وقد تتبعنا توجيهاتها في كتابنا " الدرر الناثرة في توجيه القراءات المتواترة " . يقول الحق جل جلاله : { ولقد آتينا لقمان الحكمةَ } وهو لقمان بن باعوراء ابن أخت أيوب ، أو ابن خالته ، وقيل : كان من أولاد آزر ، وقيل : أخو شداد بن عاد ، أُعطى شداد القوة ، وأُعطى لقمان الحكمة ، وعاش ألف سنة ، وقيل : أكثر ، وسيأتي . وأدرك داود عليه السلام ، وأخذ منه العلم . وكان يُفتي قبل مبعث داود ، فلما بُعث قطع الفتوى ، فقيل له في ذلك ؟ فقال : ألا أكتفي إذا كُفيت . وقيل : كان خياطاً ، وقيل : نجاراً ، وقيل : راعياً . وقيل : كان قاضياً في بني إسرائيل . وقال عكرمة والشعبي : كان نبياً ، والجمهور على أنه كان حكيماً فقط . وقد خُير بين النبوة والحكمة فاختار الحكمة ، وهي الإصابة في القول والعمل . وقيل : تتلمذ لألف نبي وتتلمذ له ألف نبي . قاله النسفي . قال ابن عمر : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " لم يكن لقمان نبياً ولكن كان عبداً كثير التفكر ، حسن اليقين ، أحب الله فأحبه ، فمنَّ عليه بالحكمة . كان قائماً فجاءه نداء : يا لقمان ، هل لك أن يجعلك الله خليفة في الأرض ، تحكم بين الناس بالحق ؟ فأجاب الصوت ، فقال : إن خيرني ربي قبلت العافية ، وإن عزم عليّ فسمعاً وطاعة ، فإني أعلم إن فعل ذلك بي عصمني وأعانني . قالت الملائكة بصوت ولا يراهم : لِمَ يا لقمان ؟ فقال : لأن الحاكم بأشد المنازل وأكدرها ، يغشاه الظلم من كل مكان ، إن يُعَن ، فالبحري أن ينجو ، وإن أخطأ أخطأ طريق الجنة ، ومن يكن في الدنيا ذليلاً ، خير من أن يكون شريفاً ، ومن يختر الدنيا على الآخرة تفُته الدنيا ، ولا يصيب الآخرة . فعجبت الملائكة من حسن منطقه ، فنام نومة فأُعطى الحكمة ، فانتبه وتكلم بها " هـ . قال مجاهد : كان لقمان عبداً أسود ، عظيم الشفتين ، مُشققَّ القدمين . زاد في اللباب : وكانت زوجته من أجمل أهل زمانها . قيل : لم يزل لقمان ، ومن زمن داود مظهراً للحكمة والزهد ، إلى أيام يونس بن متى . وكان قد عَمَّرَ عُمر سبعة أنسر ، فكان آخر نسوره " لبذ " . رُوي أنه أخذ نسراً صغيراً فربّاه ، وكان يصرفه في حوائجه ، فعاش ذلك النسر ألف سنة ومات ، ثم أخذ نسراً آخر ، فعاش خمسمائة سنة ، ثم أخذ آخر ، فعاش مثل ذلك ، إلى السابع ، عاش خمسمائة سنة ، واسمه لبذ ، فقال له لقمان يوماً : يا لبذ انهض إلى كذا ، فأراد النهوض فلم يستطع ، وإذا بوتر لقمان قد اختلج ، وكان لم يألم قط ، فنادى بأهله وعشيرته ، وعلم أن أجله قد قرب ، وقال : إن أجلي قد حضر بموت هذا النسر ، كما أعلمني ربي ، فإذا مت فلا تدفنوني في الكهوف والمقابر ، كما [ تدفنون ] الجبابرة ، ولكن ادفنوني في ضريح الارض ، فدفنوه كما أوصاهم ، فقال ابن ثعلبة : @ رَأَيْتُ الْفَتَى يَنْسَى مِنَ الْمَوتِ حَتْفَهُ حَذُوراً لِرَيْبِ الدَّهْرِ ، والدَّهْرُ آكِلُهْ فَلَوْ عَاشَ مَا عَاشَت بِلُقْمَانَ أَنْسُرٌ لَصَرْفْ المَنَايَا ، بعد ذلك ، حَافِلْهُ @@ قال البيضاوي : والحكمة في عرف العلماء : استكمال النفس الإنسانية باقتباس العلوم النظرية واكتساب الْمَلَكَةِ التامة على الأفعال الفاضلة على قدر طاقتها . ومن حكمته أنه صحب داود شهوراً ، وكان يسرد الدرع ، فلم يسأله عنها ، فلما أتمها لبسها ، فقال : نِعْمَ لبوسُ الحرب أنتِ ، فقال : الصمت حكمة وقليل فاعله ، وأن داود قال له يوماً : كيف أصبحت ؟ فقال : أصبحت في يَدَيْ غيري . وأنه أمر لقمان بأن يذبح شاة ويأتيه بأطيب مُضْغَتين منها ، فأتى باللسان والقلب ، ثم بعد أيام أمر بأن يأتي بأخبث مضغتين منها فأتى بهما أيضاً فسأله عن ذلك فقال : هما أطيب شيء إذا طابا وأخبث شيء إذا خبثا . والذي عند الثعلبي : أن الآمر له بإتيان المضغتين سيدهُ ، لا داود عليه السلام قيل له : بِمَ نلت هذه الحكم ، وقد كنت راعياً ؟ فقال بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وترك ما لا يعنيني . هـ . قال صلى الله عليه وسلم : " أول ما رؤى من حكمة لقمان : أن مولاه أطال الجلوس في المخرج ، فناداه لقمان : إن الجلوس على الحاجة ينخلع منه الكبد ، ويورث الباسور ، ويُصعد الحرارة إلى الرأس ، فاجلس هويناً ، وقم هويناً " وروي أنه قَدِمَ من سفر ، فقيل له : مات أبوك ، فقال : الحمد لله ، ملكتُ أمري ، فقيل له : ماتت امرأتك ، فقال : الحمد لله جُدِّدَ فراشي ، فقيل له : ماتت أختك ، فقال : سُترت عورتي ، فقيل له : مات أخوك ، فقال : انقطع ظهري . هـ . و " أَنْ " - في قوله : { أن أشكر } : مفسرة لأنَّ إيتاء الحكمة في معنى القول ، أي : وقلنا له اشكر الله على ما أعطاك من الحكمة ، وفيه تنبيه على أن الحكمة الأصلية والعلم الحقيقي هو العمل بهما ، وعبادةُ الله والشكر له ، حيث فسر الحكمة بالحث على الشكر . وقيل : لا يكون الرجل حكيماً حتى يكون حليماً في قوله وفعله ومعاشرته وصُحبته . وقال الجنيد : الشكر : ألا يُعْصَى اللهُ بنعمه . وقال أيضاً : ألا ترى مع الله شريكاً في نعمه . وقيل : هو الإقرار بالعجز عن الشكر . والحاصل : أن شكر القلب : المعرفة ، وشكر اللسان : الحمد ، وشكر الأركان : الطاعة . ورؤية العجز في الكل دليل القبول . { ومن يشكرْ فإنما يشكر لنفسه } لأن منفعته تعود عليه ، لأنه يريد المزيد ، { ومن كفرَ فإِنَّ الله غنيٌّ } غير محتاج إلى شكر أحد ، { حميد } حقيق بأن يُحمد ، وإن لم يَحْمَدْهُ أحد . { و } اذكر { اذ قال لقمان لابنه } ، واسمه : أنعم ، أو أشكم ، أو ناران ، { وهو يَعِظُهُ يا بُنَي } ، تصغير ابن ، لا تُشرك بالله { إن الشرك لظلم عظيم } لأنه تسوية بين مَنْ لاَ نِعْمَةَ إلا منه ، ومن لا نعمة منه أصلاً . وبالله التوفيق . الإشارة : قال القشيري : الحكمة : الإصابة في الفعل والعقد والنطق . ويقال : الحكمة : متابعة الطريق ، مِنْ حَيْثُ توفيق الحق ، لا من حيث هِمة النفس . ويقال : الحكمة : ألا يكون تحت سلطان الهوى . ويقال : هي معرفةُ قدْر نَفسك حتى لا تمدّ رجليك خارجاً عن كسائك . ويقال : ألا تستعصي على منْ تعلم أنك لا تقاومه . وحقيقة الشكر : انفتاح عين القلب لشهود ملاطفات الحق . ويقال : الشكرُ : تَحَقُّقُكَ بعجزك عن شكره . ويقال : ما به يَحْصُلُ كَمَالُ استلذاذِ النعمة . ويقال : هو فضلةٌ تظهر على اللسان من امتلاء القلب من السرور ، فينطق بمدح المشكور . ويقال : الشكر : نعتُ كُلّ غنيٍّ ، كما أن الكفران وصف كلِّ لئيم . ويقال : الشكر : قرعُ باب الزيادة . هـ . قلت : والأحسن : أنه فرح القلب بإقبال المنعم ، فيسري ذلك في الجوارح . ثم قال في قوله : { لا تُشرك بالله } : الشركُ على ضربين : جَليّ وخفيّ ، فالجليُّ عبادة الأصنام ، والخفيّ : حسبان شيء من الحدثان من الأنام - أي : أن تظن شيئاً مما يحدث في الوجود أنه من الأنام - ويقال : الشرك : إثباتُ غَيْنٍ مع شهود العين ، ويقال : الشرك ظلمٌ عَلَى القلب ، والمعاصي ظلمٌ على النفس ، فظلم النفس مُعَرَّضٌ للغفران ، وظلم القلب لا سبيل للغفران إليه . هـ . ثم أمر ببرّ الوالدين الذي تقدم السؤال عنه في سبب نزول السورة ، فقال : { وَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ … }