Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 31, Ayat: 16-19)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : الضمير في إنها : للقصة ، ومن قرأ " مثقال " : بالرفع ففاعِلُ كَانَ التامة ومن قرأ بالنصب فخبرها ، والضمير : للخطيئة أو الهيئة . وأنث " المثقال " لإضافته إلى الحبة . يقول الحق جل جلاله : وقال لقمان لابنه ، حين قال له : يا أبت : إن عَمِلْتُ بالخطيئة ، حين لا يراني أحد ، كيف يعلمها الله ؟ فقال : { يا بُنيَّ إنها } ، أي : القصة أو الخطيئة { إن تكُ مثقال حبةٍ من خَرْدَلٍ } أي : إن تك المعصية في الصغر والحقارة ، مثالَ حَبَّةٍ من خردل ، أو : إن تقع مثقالُ حَبَّةٍ من المعاصي { فتكن في صخرةٍ } ، أي : فتكن ، مع صغرها ، في أخفى مكان ، أو في جبل . وقال ابن عباس : هي صخرة تحت الأَرَضين السبع ، وهي التي يكتب فيها أعمال الفجار ، وخضرة الماء منها . هـ . قال السدي : خلق الله تعالى الأرض على حوت ، والحوت في الماء ، والماء على ظهر صَفَاةٍ - أي : صخرة - والصفاة على ظهر ملَكَ ، والملك على صَخْرَة . وهي الصخرة التي ذكر لقمان . ليست في السماء ولا في الأرض ، والصخرة على الريح . هـ . أي : إن تقع المعصية في أخفى مكان { يأتِ بها اللهُ } يوم القيامة فيحاسب عليها عاملها . { إن الله لطيفٌ } : يتوصل علمه إلى كل خفي ، { خبير } : عالم بكنهه ، أو : لطيف باستخراجها خبير بمستقرها . { يا بُني أقم الصلاةَ } : أتقنها ، وحافظ عليها تكميلاً لنفسك ، { وأْمُر بالمعروف وَانْهَ عن المنكر } تكميلاً لغيرك ، { واصبرْ على ما أصابك } في ذات الله تعالى ، إذا أمرت بالمعروف ، ونهيت عن المنكر فإن فعل ذلك تعرض للأذى ، أو : على ما أصابك من الشدائد والمحن فإنها تورث المنح والمنن . { إِن ذلك } الذي وصيتك به ، { من عزم الأمور } أي : مما عزمه الله من الأمور ، أي : قَطَعَه قطع إيجاب وإلزام ، أي : أمر به أمراً حتماً . وهو مصدر بمعنى المفعول ، أي : من معزومات الأمور ، أي : مقطوعاتها ومفروضاتها . وفيه دليل على أن هذه الطاعات كانت مأموراً بها في سائر الأمم . { ولا تُصَعِّر خَدكَ للناس } أي : تُمله عنهم ، ولا تولهم صفَحة خدك ، كما يفعله المتكبرون . والتصعير : داء يصيب العير ، فيلوى عُنُقَهُ منه . والمعنى : أَقْبِل على الناس بوجهك تواضعاً ، ولا تُولهم شق وجهك وصفحته { ولا تمشِ في الأرض مرحاً } خُيَلاَءَ متبختراً ، فهو مصدر في موضع الحال ، أي : مَرِحاً ، أو تمرح مرحاً ، أو : لأجل المرح ، { إن الله لا يحب كل مختالٍ فخورٍ } ، علة النهي . والمختال هو المرِحُ الذي يمشي خيلاء ، والفخور هو المُصَعِّرُ خَدَّهُ تكبراً . وتأخير الفخور ، مع تقدمه لرؤوس الآي . { واقصِدْ في مشيك } توسط فيه بين الدبيب والإسراع ، فلا تدب دبيب المتماوتين ، ولا تثب وثوب الشطارين ، قال عليه الصلاة والسلام : " إنَّ سُرْعَةَ المَشي تُذْهِبُ بَهَاءِ المُؤْمِنِ " وأما قول عائشة رضي الله عنها : كان إذا مَشَى أسْرَع فإنما أرادت السرعة المرتفعة عن دبيب التماوت . وعن ابن مسعود رضي الله عنه : كانوا ينهون عن خَبَبِ اليهود ودبيب النصارى ، ولكن مشياً بين ذلك . وقيل : { واقصد في مشيك } : انظر موضع قدميك ، أو : اقصد : تَوَسَّطْ بين العلو والتقصير . { واغضض من صوتك } وانقص منه ، أي : اخفض صوتك . كانت العرب تفخر بمجاهرة الصوت ، فنهى الله عن خُلُق الجاهلية ، فذكره لوصية لقمان ، وأنه لو كان شيء يُهَابْ ، لرفع صوته لكان الحمار ، فجعلهم في المثل سواء . وهو قوله : { إِن أنكَرَ الأصواتِ } أوحشها وأقبحها { لصوتُ الحمير } لأن أوله زفير ، وآخره شهيق ، كصوت أهل النار . وعن الثوري : صياح كل شيء تسبيح إلا الحمار ، فإنه يصيح لرؤية الشيطان ، وقد سماه الله منكراً ، وفي تشبيه الرافعين أصواتهم بالحمير تنبيه على أن رفع الصوت في غاية البشاعة ، ويؤيده : ما رُوِيَ أنه : عليه الصلاة والسلام - كان يعجبه أن يكون الرجل خفيض الصوت ، ويكره أن يكون مجهور الصوت . وقال بعضهم : رفع الصوت محمود في مواطن منها : الأذان والتلبية . وقال في الحاشية الفاسية : بل ينبغي الاقتصاد في ذلك ، كما قال عمر بن عبد العزيز : أَذِّن أذاناً سنِّياً ، وإلا اعتزلنا . هـ . وقال عليه الصلاة والسلام : " ارْبَعُوا على أنفسكم ، فإنكم لاَ تَدْعُون أصمَّ ولا غَائباً " وإنما وحّد صوت الحمير ولم يجمع لأنه لم يرد أن يذكر صوت كل واحد من هذا الجنس حتى يجمع ، بل المراد أن كل جنس من الحيوان له صوت ، وأنكر أصوات هذه الأجناس صوت هذا الجنس ، فوجب توحيده . الإشارة : قد اشتملت وصية لقمان على خصال صوفية ، تدل على كمال صاحبها ، منها : استحضار مراقبة الحق ومشاهدته ، في السر والعلانية ، في الجلاء والخفاء . وهو قوله : { يا بُني إنها تلك مثقالَ حبة … } إلخ . ومنها : القيام بوظائف العبودية ، بدنية ولسانية ، وهو قوله : { يا بُني أقم الصلاة … } إلخ ، ويقاس على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سائر عبادات اللسان ، ومنها الصبر على النوائب ، سواء كانت من جهة الخلق ، أو من قهرية الحق ، وهو ركن في الطريق . وتقدم تفصيله في آخر النحل . ومنها : التواضع والليونة ، وهما مصيدة الشرف ، ومن شأن أهل السياسة . ومن تواضع دون قدره رفعه الله فوق قدره . وهو قوله : { ولا تُصعر خدَّك للناس ولا تمش في الأرض مرحا } . ومنها : السكينة والوقار والرزانة ، وهي نتيجة عمارة القلب بالهيبة والإجلال . وهو قوله : { واقصد في مشيك } . ومنها : خفض الصوت في سائر الكلام ، وهو من علامة وجدان هيبة الحضرة ، والقرب من الحق ، قال تعالى : { وَخَشَعَتِ ٱلأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَـٰنِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً } [ طه : 108 ] ، وهو من آكد الآداب مع الأشياخ والفقراء . قال القشيري : قوله تعالى : { وأْمُر بالمعروف … } ، الأمر بالمعروف يكون بالقول ، وأبلغُهُ أن تمنع نفسك عما تنهى عنه ، واشتغالك ، واتصاف نفسك ، بما تأمر به غيرك ، ومنْ لا حُكْم له على نفسه لا حُكْم له على غيره . والمعروف الذي يجب الأمر به : ما يُوَصِّلُ العبدَ إلى مولاه ، والمنكر الذي يجب النهي عنه : ما يشغل العبد عن الله . ثم قال : وقوله تعالى : { واصبر على ما أصباك } : تنبيه على أنَّ مَنْ قام لله بحقٍِّ امْتُحِنَ في الله ، فسبيله أن يصبرَ في الله ، فإنَّ من صبر لله لم يخسر على الله . ثم قال : قوله تعالى : { وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ } لا تتكبرْ عليهم ، وطالِعْهم مِنْ حَيْثُ النسبة ، وتحقق بأنكَ بمشهدٍ من مولاك . ومن عَلِمَ أن مولاه ينظر إليه لا يتكبرُ ولا يتطاول ، بل يتخاضع ويتضاءل . قوله تعالى : { واقصد في مشيك … } الآية ، أي : كُنْ فانياً عن شواهدك ، مُصْطَلَماً عن صَوْلَتِك ، مأخوذاً عن حَوْلِكَ وقوتك ، متشبهاً بما استولى عليك من كشوفات سِرِّك . وانظر مَنِ الذي يسمع صوتك حين تستفيق من خُمَارِ غفلتك ، { إن أنكر الأصوات لصوت الحمير } : في الإشارة : أنه الذي يتكلم بلسان المعرفة بغير إذنٍ من الحق . وقالوا : هو الصوفي يتكلم قبل أوانه . هـ . أي يتكلم على الناس ، قبل أن يأذن له شيخه في التذكير . وبالله التوفيق . ثم ذكّر بالنعم ، فقال : { أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ سَخَّرَ … }