Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 32, Ayat: 11-15)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جل جلاله : { قل يتوفاكم مَلَكُ الموتِ الذي وُكِّل بكم } بقبض أرواحكم فتموتون ، ، { ثم إلى ربكم تُرجعون } بالبعث للحساب والعقاب . وهذا معنى لقاء الله الذي أنكروه . والتوفي : استيفاء الروح ، أي : أخذها ، من قولك : توفيت حقي من فلان ، إذا أَخَذْتُه وافياً من غير نقصان . وعن مجاهد : زُويت الأرض لملك الموت ، وجُعلت مثل الطست ، يتناول منها حيث يشاء . وعن مقاتل والكلبي : بلغنا أن اسم ملك الموت " عزرائيل " وله أربعة أجنحة : جناح بالمشرق وجناح بالمغرب ، والخلق بين رجليه ورأسه وجسده كما بين السماء والأرض ، وله الدنيا مثل راحة اليد ، فهو يقبض أنفس الخلائق بمشارق الأرض ومغاربها ، وله أعوان من ملائكة الرحمة وملائكة العذاب . وعن معاذ بن جبل : أن لملك الموت حربة ، تبلغ ما بين المشرق والمغرب ، وهو يتصفح وجوه الموتى ، فما من أهل بيت إلا وهو يتصفحهم كل يوم مرتين - وفي حديث آخر ، خمس مرات ، فإذا رأى إنساناً قد انقضى أجله ضربه بتلك الحربة . وقال : الآن يُزار بك عسكر الأموات . فإن قيل : ما الجمع بين قوله : { تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا } [ الأنعام : 61 ] و { تَوَفَّاهُمُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ } [ النساء : 97 ] و { قُل يَتَوَفَاكُم مَّلَكُ المَوتِ } وقوله : { ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلأَنفُسَ } [ الزمر : 42 ] ؟ فالجواب : أن توفي الملائكة ، القبضُ والنزعُ ، وتوفي ملك الموت الدعاء والأمر ، يدعو الأرواح فتجيبه ، ثم يأمر أعوانه بقبضها ، ثم يذهبون بها إلى عليين ، وقبض الحق تعالى : خَلْقُ الموتِ فيه : والحاصل : أنَّ قبض الملك : المباشرة ، وقبض الحق : الإخراجُ حقيقةً . قال الورتجبي : قال الحسن : ملك الموت هو الموكل بأرواح بني آدم ، وملك الفناء موكل بأرواح البهائم . فانظر فيه . وأما حديث ملكي الموت والحياة ، فقال العراقي : لم أجد له أصلاً . ويعني بملك الحياة : كون الأرواح أنفاسَ ملك الحياة كما في الإِحْيَاء . ومذهب أهل السُنَّة قاطبة : أن ملك الموت هو الّذي يقبض جميع الأرواح ، من بني آدم والبهائِم وسائر الحيوانات . وبه قال مالك وأشهب . وذهب قوم إلى أن أرواح البهائم وسائر الحيوانات إنما تَقبض أرواحَهَا أعوانُ ملك الموت . وذهب قوم إلى أن الموت في حق غير بني آدم ، إنما هو عَدَمٌ مَحْضٌ ، كيبس الشجر وجفاف الثياب ، فلا قبض لأرواحها وهو أعم من كونها تُبعث أو : لا بأن تعاد عن عدم بخلاف المكلف فإن روحه لا تعدم ، خلافاً للملاحدة ، فإنهم جعلوا الموت كله عدماً محضاً ، كجفاف العود الأخضر ، وهو كفر . هذا وقد اختلف في كون الموت ضد الحياة ، فيكون معنىً وجودياً ، أو هو عدم الحياة ، فيكون عدماً ، وعلى كلا القولين فالأرواح باقية بعد مفارقة الأبدان ، منعّمة أو معذبة . { ولو ترى } يا محمد { إذِ المجرمون } وهو الذين قالوا : { أئذا ضللنا في الأرض … } إلخ ، و " لو " و " إذ " للماضي ، وإنما جاز هنا لأن المُتَرَقَّبَ محقق الوقوع ، و " ترى " هنا ، تامة لا مفعول لها ، أي : لو وقعت منك رؤيةٌ { إذ المجرمون ناكسوا رؤوسِهم } أي : وقت كون المجرمين ناكسي رؤوسهم من الذل والحياء والندم ، { عند ربهم } عند حساب ربهم ، قائلين : { ربنا أبصَرْنا وسَمِعْنا } أي : صدَّقنا الآن وعدك ووعيدك ، وأبصرنا ما حدثَتْنَا به الرسلُ ، وسمعنا منك تصديق رسلك ، { فارجعنا } إلى الدنيا { نعملْ صالحاً } من الإيمان والطاعة ، { إِنا موقنون } بالبعث والحساب الآن . وجواب " لو " : محذوف ، أي : لرأيت أمراً فظيعاً . { ولو شئنا لآتَيْنَا كلَّ نفسٍ هُداها } أي : ما تهتدي به إلى الإيمان والطاعة ، أي : لو شئنا لأعطيناه في الدنيا ، كل نفس ما عندنا من اللُطف الذي ، لو كان منهم اختيارُ ذلك ، لاهتدوا . لكن لم نعطهم ذلك اللطف لِمَا علمنا منهم اختيار الكفر وإيثاره . وهو حجة على المعتزلة فإن عندهم : قد شاء الله أن يعطي كل نفس ما به اهتدت ، وقد أعطاها ، لكنها لم تهتد وأَوّلوا الآية بمشيئة الجبر ، وهو فاسد . قال تعالى : { ولكن حقَّ القولُ مني لأملأنّ جهنمَ من الجِنّة والناس أجمعين } ، أي : ولكن وجب القول مني لأعمرنّ جهنم من الجِنَّة والناس ، الذين علمت منهم أنهم يختارون الكفر والتكذيب . وفي تخصيص الجن والإنس : إشارة إلى أنه عصم الملائكة من عمل يستوجبون به جهنم . وفي الآية ما يقتضي تخصيص أهل النار بالجن والإنس ، فيرد ما يُذكر أنه كان قبل آدم أُمم كفروا ، ولا يصح ذلك ، إلا أن يكونوا من الجن . { فذُوقُوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا } أي : باشروا وبال ترككم العمل للقاء يومكم هذا ، وهو الإيمان به . { إِنا نَسيناكم } : تركناكم في العذاب ، { وذوقوا عذابَ الخُلْدَ } أي : العذاب الدائم الذي لا انقطاع له { بما كنتم تعملون } من الكفر والمعاصي . ثم ذكر ضدهم بقوله : { إنما يُؤمن بآياتنا } القرآن { الذين إذا ذُكَّروا بها خَرّوا سُجَّداً } سجدوا لله تواضعاً وخشوعاً ، وشكروا على ما رزقهم من الإسلام ، { وسبَّحوا بحمد ربهم } أي : نزَّهوا الله عما لا يليق به ، وأثنوا عليه حامدين له ، { وهم لا يستكبرون } عن الإيمان والسجود له . جعلنا الله منهم بمنِّه ، آمين . الإشارة : أهل الفَرْقِ من أهل الحجاب ، يتوفاهم ملك الموت ، وأهل الجمع مع الله من أهل العيان يتولى قبض أرواحهم ذو الجلال الإكرام كما قيل في الأخفياء من الأولياء الذين اختص الله تعالى بعلمهم - أنه يتولى قبض أرواحهم بيده ، فتطيب أجسادهم به فلا يعدوا عليها الثرى حتى يُبعثوا بها مُشْرِقَةً بنور البقاء المجعول فيهم ، بالرجوع إليه من الفناء ، فيكون بقلوبهم بَقَاءُ الأبد مع الباقي الأحد عز وجل . وقد ورد في الخبر " من واظب على قراءة آية الكرسي ، دُبر كل صلاة ، كان الذي يتولى قبض روحه ذو الجلال الإكرام " يعني : من تدبر معناها . والمراد بذلك خطفتها بالتجلي ، واستغراقها في الشهود ، وغيبتها عن الغير في ذلك الوقت الهائل ، فيغيب عن الواسطة في شهود الموسوط ، مع وجود الواسطة لعموم الآية . والله تعالى أعلم . قال القشيري : لولا غفلةُ القلوب لما أحال قبض أرواحهم على مَلَكِ الموت لأنَّ مَلَكَ الموتِ لا أَثَرَ منه في أحد ، وما يحصل في التوفِّي فمن خصائص قدرة الحق ، ولكنهم غفلوا عن شهود حقائق الربِّ ، فخاطبهم على قدر أفهامهم ، وعلَّقَ بالأغيار قلوبهم . وكلٌّ يُخاطبه بما يحتمل على قدر قوته وضعفه . هـ . وقال في قوله : { ولو ترى إذ المجرمون … } الآية : مَلَكَتْهُم الدهشةُ وَغَلبتهم الحجة ، فاعترفوا ، حينَ لا عُذْرَ ، واعترفوا ، حينَ لا اعتراف . هـ . قوله تعالى : { ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها … } . قال القشيري : لو شاء سَهَّل سبيلَ الاستدلال ، وأدَام التوفيق لكلِّ أحدٍ ، ولكن تَعلَّقَتْ المشيئةُ بإغواء قوم ، وأردنا أن يكون للنار قُطان ، كما يكون للجنة سُكان ، لما علمنا يوم خلقناهما أنه ينزلهما قومٌ وقومٌ . فَمن المحال أن نريد ارتفاعَ معلومنا ، إذ لو لم يقع ، ولم يحصل لم يكن عِلْماً . فإذا لا أكون إلها . ومن المحال أن أُريد ذلك . ويقال : من يتسلَّطْ عليه من يحبه لم يجد في مُلْكِه ما يكرهه . يا مسكين أفنيت عُمْرَك في النكد والعناء ، وأمضيت أيامك في الجهد والرجاء ، غيَّرت صفتك ، وأكثرتَ مجاهدتك ، فما تفعل فيما مضى ، كيف تبدله ؟ وما تصنع في مشيئتي ، وبأي وسع ترُدُّها ؟ وأنشدوا : @ شكا إليك ما وَجَدْ من خَانَهُ فيك الجَلَدْ حيرانُ ، لو شئتَ ، اهتدى ظمآنُ ، لو شئتَ ، وَرَدْ . هـ . @@ قوله تعالى : { إنما يؤمن … } الآية ، خروا سُجداً بظواهرهم في التراب ، وبسرائرهم ، بالخضوع لهيبة الكريم الوهاب ، فسجود الجبهة وسيلة لسجود القلب ، فإذا سجدت الجبهة وتكبر القلب على عباد الله ، كانت وسيلة بلا غاية . وبالله التوفيق . ثم وصف أهل الخضوع وما أكرمهم به ، فقال : { تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ … }