Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 32, Ayat: 16-17)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جل جلاله : { تتجافى } أي ترتفع وتتنحى { جُنُوبهم عن المضاجع } عن الفُرش ومواضع النوم للصلاة والذكر . قال سهل : وَهَب لقوم هِبَةً ، وهو أن أَذِن لهم في مناجاته ، وجعلهم من أهل وسيلته ثم مدحهم عليه فقال : { تتجافى جنوبهم عن المضاجع } ، { يَدْعُونَ } أي : داعين { ربَّهم خوفاً } ، أي : لأجل خوفهم من سخطه { وطمعاً } في رحمته ، وهم المجتهدون أو المتفكرون في الليل . وسيأتي في الإشارة . وعن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسيرها : " هو قيامُ العبد من الليل " . وعن ابن عطاء : أبت جنوبهم أن تسكن على بساط الغفلة ، وطلبت بساط القربة ، وعن أنس : كان أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء الأخيرة ، فنزلت فيهم . وقال ابن عمر رضي الله عنه : قال صلى الله عليه وسلم : " من عَقَب - أي : أحيا - ما بين المغرب والعشاء بُني له في الجنة قصران مسيرة عام ، وفيهما من الشجر ما لو نزلهما أهل المشرق والمغرب لأوسعهم فاكهة . وهي صلاة الأوابين وغفلة الغافلين . وإن من الدعاء المستجاب الذي لا يُرد : الدعاء بين المغرب والعشاء " هـ . وقيل : هم الذين يَصلُّونَ العَتَمَةَ ، ولا ينامون عنها . { ومما رزقناهم ينفقون } في طاعة الله ، يعني : أنهم جمعوا بين قيام الليل وسخاوة النفس . { فلا تعلم نفس ما أُخْفِيَ لهم من قُرة أعين } أي : لا يعلم أحد ما أعد الله لهم من الكرامة ، مما تقرّ به العينُ من نعيم الأشباح ونعيم الأرواح . وقرأ حمزة ويعقوب : " أَخْفَى " على المضارع . { جزاء بما كانوا يعملون } ، وعن الحسن : في القوم أعمالهم في الدنيا فأخفى الله لهم ما لا عين رأت ، ولا أذنٌ سمعت ، ولا خطر على قلب بشر . وفيه دليل على أن المرادَ الصلاةُ في جوف الليل ليكون الجزاء وفاقاً . قاله النسفي . وفي حديث أسماء ، عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إذَا جَمَعَ الله الأَوَّلِينَ والآخِرِين ، يوم القيامة ، جاء مُنَادٍ يُنادِي بصوت يسمعه الخلائق كلهم : سيعلم أهل الجمع ، اليوم ، مَنْ أَوْلَى بالكرم ، ثم يرجع فينادي : ليقم الذين كانت لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ، فيقومون ، وهم قليل . ثم يرجع فينادي : ليقم الذين كانوا يحمدون الله في السراء والضراء ، فيقومون ، وهم قليل ، يسرحون جميعاً إلى الجنة . ثم يحاسب سائر الناس " وفي البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم : " يقول الله - عز وجل - : أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر " قال أبو هريرة : واقرؤوا ، إن شئتم : { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين } . وقال في " البدور السافرة " : أخرج الترمذي ، عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إنَّ في الجّنَّة مَائَةَ دَرَجَةٍ ، لَوْ أَنَّ العَالَمِينَ اجتَمَعُوا في إحدَاهُنَّ لَوَسعَتْهُمُ " هـ . وقال ابن وهب : أخبرني عبد الرحمن بن زياد أنه سمع عُتبة بن عُبيد ، الضبي ، يذكر عمن حدَّثه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن في الجنة مائة درجة ، بين كل درجتين ما بين السماء والأرض ، أول درجة منها دورُها وبيوتها وأبوابها وسرُرُها ومغاليقها ، من فضة ، والدرجة الثانية : دورها وبيوتها وسُرُرها ومغاليقها من ذهب ، والدرجة الثالثة : دورها وبيوتها وأبوابها وسُرُرها ومغاليقها من ياقوت ولؤلؤ وزبرجد . وسَبْع وتسعون درجة ، لا يعلم ما هي إلا الله تعالى " هـ . وقيل : المراد بقرة الأعين : النظر إلى وجه الله العظيم . قلت : قرة عين كل واحد : ما كان بغيتَه وهِمَّته في الدنيا ، فمن كانت همته القصور والحور ، أعطاه ما تقر به عينه من ذلك ، ومن كانت بغيته وهمته النظرة ، أعطاه ما تقر به عينه من ذلك ، على الدوام . قال أبو سليمان : شتان بين مَنْ هَمُّهُ القصور والحور ، ومن همه الحضور ورفعُ الستور . جعلنا الله من خواصهم . آمين . الإشارة : قوم تتجافى جنوبهم عن المضاجع الحسية إلى العبادة الحسية ، وهم العُبّاد والزهاد من الصالحين ، فلا تعلم نفس ما أُخفي لهم من نعيم القصور ، والحور ، والولدان ، وغير ذلك . وقوم تتجافى قلوبهم عن مضاجع نوم الغفلة إلى حال الانتباه واليقظة ، وعن مضاجع الرغبة إلى حال العفة والحرية ، ثم عن مضاجع الفَرْقِ ، إلى حال الجمع ، ثم من الجمع إلى جمع الجمع . فهؤلاء على صلاتهم دائمون ، وفي حال نومهم عابدون ، وعلى كل حال إلى ربهم سائرون ، وفي معاريج بحر عرفانهم سائحون ، فلا تعلم نفس ما أُخفي لهؤلاء من دوام النظرة ، والعكوف في الحضرة ، واتصال الحبرة . فعبادة هؤلاء قلبية ، سرية خفية عن الكرام الكاتبين ، بين فكرة وشهود ، وعبرة واستبصار ، الذرة منها تعدل أمثال الجبال من أعمال الجوارح ، وقد ورد : تفكر ساعة أفضل من عبَادَةِ سَبْعينَ سَنَة . هذا تفكر الاعتبار ، وأما تفكر الشهود والاستبصار ، فكل ساعة ، أفضل من ألف سنة ، كما قال الشاعر : @ كُلُّ وَقْتٍ مِنْ حَبِيبِي قَدْرُهُ كَأَلْفِ حَجّه @@ أي : سنة ، ومع هذا لا يُخلون أوقاتهم من العبادة الحسية ، شكراً ، وقياماً بآداب العبودية ، وهي في حقهم كمال ، كما قال الجنيد : عبادة العارفين تاج على الرؤوس . هـ . وفي مثل هؤلاء ورد الخبر : " إن أهل الجنة بينما هم في نعيمهم ، إذ سطع عليهم نور من فَوق ، أضاءت منه منازلهم ، كما تضيء الشمس لأهل الدنيا ، فنظروا إلى رجالٍ مِنْ فوقهم ، أهل عليين يرونهم كما يُرى الكوكب الدري في أفق السماء ، وقد فُضِّلُوا عليهم في الأنوار والنعم ، كما فضل القمر على سائر النجم ، فينظرون إليهم ، يطيرون على نجب ، تسرح بهم في الهواء ، يزورون ذا الجلال الإكرام ، فينادون هؤلاء : يا أخواننا ، ما أنصفتمونا ، كنا نُصلي كما تُصلون ، ونصوم كما تصومون ، فما هذا الذي فضلتمونا به ؟ فإذا النداء من قِبل الله تعالى : كانوا يجوعون حين تشبعون ، ويعطشون حين تروون ، ويعرون حين تكسون ، ويذكرون حين تسكتون ، ويبكون حين تضحكون ، ويقومون حين تنامون ، ويخافون حين تأمنون ، فلذلك فُضِّلوا عليكم اليوم " فذلك قوله تعالى : " فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون " . هـ . قال القشيري : تتجافى جنوبهم عن المضاجع ، في الظاهر ، عن الفراش ، قياماً بحقِّ العبادة والجهد والتِهجد ، وفي الباطن : بِتَبَاعُدِ قلوبِهم عن مضاجعات الأحوال ، ورؤية قَدرِ النفس ، وتوهم المقام لأن ذلك بجملته ، حجابٌ عن الحقيقة ، وهو للعبد سُمٌّ قاتل ، فلا يساكنون أعمالهم ، ولا يلاحظون أحوالهم ، ويفارقون مآلِفَهم ، ويَهجُرون معارفهم . والليل زمان الأحباب ، قال الله تعالى : { لِتَسْكُنُواْ فِيهِ } [ القصص : 73 ] يعني : عن كلّ شُغل وحديث سوى حديث معبودكم ومحبوبكم ، والنهارُ زمان أهل الدنيا . قال الله تعالى : { وَجَعَلْنَا ٱلنَّهَارَ مَعَاشاً } [ النبأ : 11 ] … انظر بقية كلامه . ثم بيّن أن من كان في نور الطاعة والاحسان ليس كمن كان في ظلمة الكفر والعصيان ، فقال : { أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن … }