Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 32, Ayat: 4-6)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جل جلاله : { اللهُ الذي خلق السماوات والأرضَ وما بينهما في } مقدار { ستةِ أيام ثم استوى على العرش } أي : استولى بقهرية ذاته . وسئل مالك عنه ، فقال : الاستواء معلوم ، والكيفية مجهولة ، والسؤال عن هذا بدعة . هـ . ولم تتكلم الصحابة على الاستواء ، بل أمسكوا عنه ، ولذلك قال مالك : السؤال عنه بدعة . وسيأتي شيء في الإشارة . { ما لكم من دونه } من دون الله { من وليٍّ ولا شفيعٍ } أي : إذا جاوزتم رضاه لم تجدوا لأنفسكم ولياً ، أي : ناصراً ينصركم ، ولا شفيعاً يشفع لكم ، { أفلا تتذكرون } تتعظون بمواعظ الله . { يُدبّرُ الأمرَ } أي : أمر الدنيا . وما يكون من شؤونه تعالى في ملكه ، فهو كقوله : { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } [ الرحمن : 29 ] ، أي : يُبديه لا يبتديه . وهو إشارة إلى القضاء التفصيلي ، الجزئي ، لا الكلي ، فإنه كان دفعة . يكون ذلك التدبير { من السماء إلى الأرض } ، فيدبر أمر الدنيا بأسباب سماوية ، نازلة آثارها إلى الأرض . { في يوم كان مقداره ألفَ سنةٍ مما تعدُّون } من أيام الدنيا . قال الأقليشي : جاء في حديث : " إن بُعد ما بين السماء والأرض ، وما بين سماء إلى سماء ، مسيرة خمسمائة سنة " وفي حديث آخر : " إن بين ذلك نَيِّفاً وسبعين سنة " ، وإنما وقع الاختلاف في ذلك بالنسبة إلى سير الملائكة . وإن سرعة بعضها أكثر من سرعة بعض . كما يقول القائل : من موضع كذا إلى كذا مسيرة شهر للفارس وشهرين للراجل ، وعليه يخرج قوله تعالى : { يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ إِلَى ٱلأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ } . وقال في آية أخرى : { خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } [ المعارج : 4 ] . وهكذا الوجود مَنْ علوه إلى سفله ، مِنْ الملائكة من يقطعه في مدةٍ ما ، ويقطعه غيره في أكثر منها أو أقل . هـ . وقيل : المعنى : أنه يدبر أمر الدنيا إلى أن تقوم الساعة ، ثم يعرج إليه ذلك الأمر ، فيحكم فيه في يوم كان مقداره ألف سنة ، أو خمسين ألف سنة . فقد قيل : إن مواقف يوم القيامة خمسون موقفاً ، كل موقف ألف سنة . وقد حكى هذا ابن عطية ، فقال : يُدبر الأمر في مدة الدنيا ، ثم يعرج إليه يوم القيامة . ويوم القيامة : مقداره ألف سنة من عَدِّنا . وهو على الكفار قدر خمسين ألف سنة لِهوله ، حسبما في سورة المعارج . هـ . قلت : والتحقيق ، في الفرق بين الآيتين ، أن الحق تعالى ، حيث لم يختص بمكان دون مكان ، وكانت الأمكنة في حقه تعالى كلها واحدة ، وهو موجود معها وفيها بعلمه وأسرار ذاته ، كان العروج إنما هو إليه على كل حال ، بعدت المسافة أو قربت . لكن لما علقَ العروج بتدبير الأمور وتنفيذها ، قرّب المسافة ليعلم العبد أن القضاء نافذ فيه بسرعة . ولمَّا عَلَّقَ عروج الملائكة والروح إلى مطلق الذات المقدسة بَعَّدَ المسافة زيادة في علو شأنه ورفعة قدره . وكل هذا العروج في دار الدنيا . على قول من عَلَّقَ في يوم بتَعْرج في سورة المعارج . فتأمله . { ذلك عالمُ الغيب والشهادة } ، أي : ذلك الموصوف بتلك الصفات العظام هو عالم ما غاب عن الأبصار من عجائب أسرار عالم الملكوت ، وما شوهد في عالم الحس من عجائب عالم الملك . { العزيزُ } الغالب أمره وتدبيره ، { الرحيم } البالغ لطفُه وتيسيره . الإشارة : اعلم أن الحق تعالى تجلى بهذه الكائنات ، قطعة من نور ذاته ، على ترتيب وتمهيل . فتجلى بالعرش ، ثم بالماء ، فكان عرشه على الماء ، ثم بالكرسي ، ثم بالأرض ، ثم بالسموات ، ولما أكمل أمر مملكته تجلى بنور صمداني رحماني من بحر جبروته ، استوى به على عرشه لتدبير ملكه ، ثم تجلى بآدم على صورة ذلك التجلي . ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : " إن الله خلق آدم على صورته " وفي رواية : " على صورة الرحمن " وبذلك التجلي يتجلى يوم القيامة لفصل عباده ، ولرؤيته - باعتبار العامة - ، وهذا التجلي كله ، من جهة معناه ، متصل بسائر التجليات ، جزئي من جهة تشكيله للمعنى الكلي ، والفرق بينه وبين التجليات الظاهرة للحس : أن التجلي المستولي غَيْرُ مُرْتَدٍ برداء الحس إذ لا عبودية فيه ، ولا قهرية تلحقه . ولأنه لم يظهر للعيان حتى يحتاج إلى رداء ، لأن كنزه ما زال مدفوناً ، حيث ارتفع فوق تجليات الأكوان . فتأمل ، وسَلِّمْ ، إن لم تفهم ، ولا تبادر بالإنكار حتى تصحب الرجال ، فيخوضون بك بحر الأحدية الحقيقية ، فتفهم أسرار التوحيد . وبالله التوفيق . ثم كَمُل ما بقي من أوصافه ، فقال : { ٱلَّذِيۤ أَحْسَنَ … }