Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 33, Ayat: 21-24)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جل جلاله : { لقد كان لكم في رسول الله } محمد صلى الله عليه وسلم { أسوَةٌ حَسَنَة } خَصْلَةٌ حسنة ، من حقها أن يُؤتسى بها كالثبات في الحرب ، ومقاساة الشدائد ، ومباشرة القتال . أو : في نفسه قدوة يحسن التأسي به . كما تقول : في البيضة عشرون رطلاً من حديد ، أي : هي في نفسها عشرون . وفيه لغتان : الضم والكسر ، كالعِدوة والعُدوة ، والرِشوة والرُشوة . وهي { لمَن كان يرجو اللهَ واليوم الآخر } أي : يخاف الله ويخاف اليوم الآخر ، أو : لأجل ثواب الله ونعيم اليوم الآخر . و " لمن " : قيل : بدل من ضمير " لكم " ، وفيه ضعف إذ لا يبدل من ضمير المخاطب إلا ما يدل على الإحاطة . وقيل : يتعلق بحسنة ، أي : أسوة حسنة كائنة لمَن آمن ، { وذكر الله كثيراً } أي : في الخوف والرجاء ، والشدة والرخاء ، فإن المؤتسِي بالرسول يكون كذلك . { ولمَّا رأى المؤمنون الأحزابَ } قد أقبلوا عليهم ليستأصلوهم ، وقد وعدهم الله أن يسلط عليهم المحن ، ويُزَلْزَلُوا حتى يستغيثوا ويستنصروا بقوله : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم … } [ البقرة : 214 ] إلى قوله : { نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } [ البقرة : 214 ] ، فلما جاء الأحزاب واضطربوا { قالوا هذا ما وعدنا اللهُ ورسولهُ وصدق اللهُ ورسولهُ } ، وعَلِمُوا أن الجنة والنصرة قد وجبت لهم . وعن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : " إنَّ الأحزاب سائِرون إليكم ، في آخر تِسْع ليال ، أو عشر " ، فلما رأوهم قد أقبلوا للميعاد ، قالوا ذلك . و { هذا } : إشارة إلى الخطب والبلاء ، أي : هذا الخطب الذي وعدنا الله ورسوله ، وصدق الله ورسوله ، { وما زادهم } ، ما رأوا من اجتماع الأحزاب ومجيئهم ، { إلا إيماناً } بالله وبمواعيده { وتسليماً } لقضائه وأقداره . { من المؤمنين رجال صَدَقوا ما عاهدوا اللهَ عليه } أي : صدقوا فيما عاهدوه ، فحذف الجار ، وأوصل المفعول إلى " ما " وذلك أن رجالاً من الصحابة نَذَرُوا أنهم إذا لقوا حرباً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبتوا ، وقاتلوا حتى يُسْتَشْهَدُوا ، وهم : عثمان بن عفان ، وطلحة ، وسعيد بن زيد ، وحمزة ، ومصعب ، وأنس بن النضر ، وغيرهم . { فمنهم مَن قضى نَحْبهُ } نذره بأن قاتل حتى استشهد كحمزة ، ومصعب ، وأنس بن النضر . والنَّحْبُ : النذر ، واستعير للموت لأن كل حي من المحدثات لا بد له أن يموت ، فكأنه نذرٌ لازم في رقبته ، فإذا مات فقد قضى نحبه ، أي : نذره . وقال في الصحاح : النحب : النذر ، ثم قال : والنَّحْبَ : المدة والوقت . يقال : قضى فلان نَحْبَه ، إذا مات . هـ . فهو لفظ مشترك بين النذر والموت . وصحح ابنُ عطية أن النحب الذي في الآية ليس من شرطه الموت . بل معناه : قَضَى نذره الذي عاهد الله عليه من نصرة الدين ، سواء قُتل أو بقي حيًّا . بدليل قوله - عليه الصلاة والسلام - في طلحة : " هذا ممن قَضَى نَحْبَه " هـ . { ومنهم مَن ينتظرُ } أي : الموت على الشهادة كعثمان وطلحة ، { وما بدّلوا } العهد { تبديلا } ولا غيَّروه ، لا المسْتَشْهَد ، ولا مَن ينتظر الشهادة . وفيه تعريض بمَن بدّل من أهل النفاق ، كقوله تعالى فيما مر : { وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ … } [ الأحزاب : 15 ] . { ليجزي اللهُ الصادقين بصدقهم } بوفائهم بالعهد ، { ويُعذِّب المنافقين إن شاء } إذا لم يتوبوا ، { أو يتوبَ عليهم } إن تابوا { إن الله كان غفوراً } بقبول التوبة ، { رحيماً } بعفو الحوبة . الإشارة : قد تقدّم ما يتعلق بالاقتداء بالرسول - عليه الصلاة والسلام - والاهتداء بهديه ، وأنه منهاج الأكابر . وقوله تعالى : { ولَمَّا رأى المؤمنون الأحزاب … } الآية . كذلك الأقوياء من هذه الطائفة ، إذا رأوا ما يهولهم ويروعهم زادهم ذلك إيماناً وتسليماً ، ويقيناً وطمأنينة ، وتحققوا بصحة الطريق إذ هو منهاج السائرين والأولياء الصادقين ، وسنة الأنبياء والمرسَلين . قال تعالى : { أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } [ العنكبوت : 2 ] الآية . وتقدم في إشارتها ما يتعلق بهذا المعنى . قال بعضهم : نحن كالنجوم ، كلما اشتدت الظلمة قَوِيَ نُورُنَا . وقال القشيري : كما أن المنافقين اضطربت عقائدهمُ عند رؤية الأعداء ، فالمؤمنون وأهل اليقين زادوا ثِقَةٌ ، وعلى الأعداء جرأةً ، ولحكم الله استسلاماً . وفي الله قوة . ثم قال : قوله تعالى : { من المؤمنين رجال صدقوا … } الآية ، شَكَرَ صنيعَهم في المِرَاسَ ، ومدح يقينهم عند شهود الناس ، وسمّاهم رجالاً إثباتاً لهم بالخصوصية في الرتبة ، وتمييزاً لهم من بين أشكالهم بعلوِّ الحال ، فمنهم مَنْ خرج من دنياه على صِدْقه ، ومنهم مَنْ ينتظر حكم الله في الحياة والممات ، وحقيقة الصدق : حفْظُ العهد وترك مجاوزة الحدَّ . ويقال : استواءُ السِّرِّ والجهر . ويقال : هو الثبات عندما يكون الأمر جدًّا . قوله تعالى : { … ليجزي الله الصادقين بصدقهم … } في الدنيا بالتمكين ، والنصرة على العدو ، وإعلاء الرتبة ، وفي الآخرة بجزيل الثواب ، وجميل المآب ، والخلودِ في النعيم المقيم ، والتقدم على الأشكال بالتكريم والتعظيم . وقوله : { ويُعذب المنافقين إن شاء } يقال : إذا لم يجَزم بعقوبة المنافق ، وتعلَّق القول فيه على الرجاء ، فبالحريّ ألا يُخيِّبَ المؤمنَ في رجائه . انتهى كلام القشيري . ثم ذكر رجوع الأحزاب ، فقال : { وَرَدَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ … }