Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 35, Ayat: 15-17)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله : { يا أيها الناس أنتم الفقراءُ إِلى الله } في دقائق الأمور وجليلها ، في كل لحظة لا يستغني أحد عنه طرفة عين ، ولا أقل من ذلك إذ لا قيام للعبد إلا به ، فهو مفتقر إلى الله ، إيجاداً وإمداداً . قال البيضاوي : وتعريف الفقراء للمبالغة في فقرهم ، كأنهم لشدة افتقارهم ، وكثرة احتياجهم ، هم الفقراء دون غيرهم ، وأن افتقار سائر الخلق بالإضافة إلى فقرهم غير مُعتد به ، ولذلك قال : { وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً } [ النساء : 28 ] قلت : ويمكن أن يكون الحصر باعتبار الحق تعالى ، أي : أنتم فقراء دون خالقكم ، بدليل وصله بقوله : { والله هو الغنيُّ الحميدُ } . وقال ذو النون رضي الله عنه : الخلقُ محتاجون إليه في كل نَفَسٍ ، وطرفة ، ولحظة ، وكيف لا ووجودهم به ، وبقاؤهم به ؟ { والله هو الغنيُّ } عن الأشياء كلها ، { الحميدُ } أي : المحمود بكل لسان . ولم يَسمِّهم بالفقر للتحقير ، بل للتعظيم لأن العبد إذا أظهر فقره لسيده الغني أغناه عن أشكاله وأمثاله . وذكر " الحميد " ليدل به على أنه الغني النافع بغناه خَلْقه ، والجواد المنعم عليهم إذ ليس كلّ غنيّ نافعاً بغناه ، إلا إذا كان الغنيُّ جواداً منعماً ، وإذا جاد وأنعم ، حمده المُنعَم عليهم . ولَمَّا ذكر افتقارم إلى نعمة الإيجاد ، ذكر افتقارهم إلى نعمة الإمداد ، بقوله : { إِن يشأ يُذهبكم } أي : إن يشأ يُفنيكم كلكم ، ويردكم إلى العدم فإنَّ غناه بذاته ، لا بكم ، { ويأتِ بخلقٍ جديدٍ } يكون أطوع منكم ، أو بعالَم آخر غير ما تعرفون . { وما ذلك } أي : الإفناء والإنشاء { على الله بعزيز } بممتنع . وعن ابن عباس : يخلق بعدكم مَن يعبده ، لا يشرك به شيئاً . قال القشيري : فقر الخِلْقَة عام لكلِّ أحدٍ ، في أول حال وجوده ليُبديه وينْشيه ، وفي ثاني حال بقائه ليُديمَه ويُبقيَه . هـ . قلت : وإليه أشار في الحِكَم بقوله : " نعمتان ما خلا موجود عنهما ، ولا بد لكل موجود منهما : نعمة الإيجاد ، ونعمة الإمداد ، أنعم أولاً بالإيجاد ، وثانياً بتوالي الإمداد " . الإشارة : الفقر على أربعة أقسام : فقر من الدين ، وفقر من اليقين ، وفقر من المال ، وفقر مما سوى الله . فالأولان مذمومان ، وصاحبهما موسوم بالإفلاس والهلع ، ومنهما وقع التعوُّذ في الحديث . والثالث : إن صحبه الرضا فممدوح ، وفيه وردت الأحاديث النبوية ، وإلاَّ فمذموم ، ويشمله التعوُّذ في الحديث . الرابع : هو مطلب القاصدين والعارفين ، وهو الغيبة عما سوى الله ، والغنى بالله ، كما قال الشيخ أبو الحسن : " أسألك الفقر عما سواك ، والغنى بك ، حتى لا نشهد إلا إياك " وهو ينشأ عن التحقُّق بالفقر ظاهراً وباطناً لأن الفقر من وصف العبد ، والغنى من وصف الرب ، فمَن تحقق بوصفه أمدّه الله بوصفه ، " تحقق بوصفك يُمدك بوصفه ، تحقق بفقرك يمدك بغناه ، تحقق بذلك يمدك بعزه " . وقال القشيري : بعد كلام ـ : والفقراءُ على أقسام : فقير إلى الله ، وفقير إلى شيء هو من الله معلومٍ ومرسوم . ومَن افتقر إلى شيءٍ استغنى بوجود ذلك الشيء ، فالفقير إلى الله هو الغني بالله ، فالافتقار إلى الله لا يخلو من الاستغناء بالله . فالفقير إليه مُسْتَغْنٍ به ، والمستغنى به فقيرٌ إليه . ومن شرف الفقر اقترانه بالتواضع والخشوع ، ومن آفات الغنى امتزاجُه بالتكبُّر . وشَرَفُ العبد وعزه في فقره ، وذُلُّه وصغاره في توهمه الغنى ، وأنشدوا : @ وإذا تذلّلَت الرقابُ تَقَرُّباً منَّا إليكَ فعِزُّها في ذُلِّها @@ ومن شرط الفقير : ألا يملك شيئاً ، ولا يملكه شيء . ومن آداب الفقير الصادق : إظهارُ التكثُّر عند وجود التقتُّر ، والشكر على البلوى ، والبُعد عن الشكوى . ويقال : الفقر المحمود : العيش مع الله براحة الفراغ على سَرْمَدِ الوقت ، من غير استكراه شيء منه بكلِّ وجْهٍ . هـ . ملخصاً . قال الورتجبي : فطرة الإنسانية وقعت من الغيب مضطربة متحركة إلى الأزل ، بنعت الافتقار إليه ، كانجذاب الحديد إلى المغناطيس لأنها وقعت بنعت العشق ، والعاشق مفتقر إلى معشوقه ، انفعالاً ، فمَن عرفه بالأزلية والأبدية يفتقر إليه افتقاراً قطعيًّا لأن بقاءه لا يكون إلا به . وإذا كان كذلك صار غنيًّا بالله ، متصفاً بغناه ، غنيًّا به عن غيره ، مفتقراً إليه . فإذا كان في محل الصحو يكون مفتقراً إليه ، وإذا كان في محل السكر بقي في رؤية غناه عنه ، فصار محجوباً عنه ، ولا يدري . هـ . وقال سهل رضي الله عنه : لَمَّا خلق الله الخلقَ حَكَمَ لنفسه بالغِنى ، ولهم بالفقر ، فمَن ادّعى الغِنى ، حُجب عن الله ، ومَن أظهر فقره أوصله فَقْرُه إليه . فينبغي للعبد أن يكون مفتقراً بالسرّ إليه ، ومنقطعاً عن الغير إليه ، حتى يكون عبوديّته لله محضة ، فالعبودية هي الذل والخضوع . هـ . وقال الواسطي : مَن استغنى بالله لا يفتقر ، ومَن يتعزّز بالله لا يَذل . وقال يحيى بن معاذ : الفقرُ خير للعبد من الغِنى لأن الذلة في الفقر ، والكبر في الغِنى ، والرجوع إلى الله بالتواضع والذلة خير من الرجوع إليه بكثرة الأعمال . وقيل : صفة الأولياء ثلاثة : الثقة بالله في كل شيء ، والفقر إليه في كل شيء ، والرجوع إليه من كل شيء . وكيف يفتقر العبد إلى العبد وهو لا يغني عنه شيئا ، قال تعالى : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ وَإِن تَدْعُ … }