Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 35, Ayat: 27-28)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أنَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ ٱلْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ وَمِنَ ٱلنَّاسِ وَٱلدَّوَآبِّ وَٱلأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ … } قلت : { مختلفاً } : نعت { ثمرات } . و { مختلف ألوانه } : صفة لمحذوف ، أي : صنف مختلف . يقول الحق جلّ جلاله : { ألم تَرَ أن الله أنزلَ من السماء ماءً فأخرجنا به } بالماء { ثمراتٍ مختلفاً ألوانُها } أي : أجناسها ، كالرمان ، والتفاح ، والتين ، والعنب ، وغيرها مما لا يُحصى ، أو : ألوانها : هيئاتها من الحُمرة والصفرة ونحوهما . { ومن الجبال جُدَد } طُرق مختلفة اللون . جمع : جُدَّة ، كمُدَّةٍ ومُدَدٍ . والجُدة : الطريقة والخطة ، تكون في الجبل ، تخالف لون ما يليها . وكل طريقة من سواد أو بياض فهي جُدة . قاله الهروي . وهي مبتدأ وخبر ، أي : وطرق { بِيض وحُمْرٌ } كائنة من الجبال . { وغرابيبُ سود } أي : ومنها غرابيب سود ، أي : ومن الطرق سود غرابيب جمع : غربيب ، وهي الذي أبعد في السواد وأغرب ، ومنه : الغراب . قال الهروي : هي الجواد ذوات الصخور السود ، والغربيب : شديد السواد . هـ . وفي الصحاح : تقول هذا أَسود غربيب ، أي : شديد السواد ، وإذا قلت : غرابيب سود تجعل السود بدلاً من غرابيب لأن توكيد الألوان لا يتقدم . هـ . تقول : أصفر فاقع ، وأسود حالك ، ولا يتقدم الوصف ، ونقل الكواشي عن أبي عبيد : أن في الآية تقديماً وتأخيراً ، تقديره : وسود غرابيب . وفائدته : أن يكون المؤكد مضمراً ، والمظهر تفسيراً له ، فيدل على الاعتناء به ، لكونهما معاً يدلان على معنىً واحد . هـ . ولا بد من تقدير حذف مضاعف في قوله : { ومن الجبال جُدَد } أي : من الجبال ذو جدد بيض ، وحمر ، وسود غرابيب حتى يؤول إلى قولك : ومن الجبال مختلف ألوانه ، كما قال : { ثمرات مختلفاً ألوانها } . { ومن الناس والدوابِّ والأنعامِ مختلفٌ ألوانه } أي : ومنهم صنفٌ مختلف ألوانه بالحمرة والصفرة والبياض والسواد . { كذلك } أي : كاختلاف الثمرات والجبال . قال القشيري : تخصيص الفعل بهيئته وألوانه من أدلة قصد الفاعل وبرهانه . فإتقان الفعل وإحكامه شواهد الصنع وإعلامه . وكذلك أيضاً الناس والدواب والأنعام ، بل جميع المخلوقات ، متجانس الأعيان ، مختلف الصفات ، وهو دليل ثبوت منشئها بنعت الجلال هـ . الإشارة : ألم تر أن الله أنزل من سماء الغيوب ماء الواردات الإلهية ، فأخرجنا به ثمرات ، وهي العلوم والأذواق والوجدان ، مختلف ألوانها ، فمنها علوم الشرائع ، وتحقيق مسائلها ، ومنها علم العقائد ، وتشييد أدلتها وبراهينها ، ومنها علوم اللسان بإتقان قواعدها ، ومنها علم القلوب وتصفيتها من العيوب ، وهو علم الطريقة ، ومنها علم الأسرار ، وهي أسرار الذات والصفات ، وهو علم الحقيقة . ومن جبال العقل طُرق بيض ، وحمر ، وسود ، فالبيض : طرق الكشف والبيان ، وحلاوة الذوق والوجدان ، والحُمر : طُرق الدليل والبرهان لأنها قد تظهر وتخفى ، والسود الغرابيب : عقول الفلاسفة والطبائعيين ، أهل الحدس والتخمين ، إذا لم يقتدوا بالكتاب المبين ، وشرعِ النبي الأمين . أولئك هم الضالون المضلُّون . ولمّا كان النظر في هذه المصنوعات إنما يكون بالعلم ، ذكر أهله ، فقال : { … إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاءُ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ } يقول الحق جلّ جلاله : { إِنما يخشى اللهَ } أي : يخافه { من عباده العلماءُ } لأنهم هم الذين يتفكرون في عجائب مصنوعاته ، ودلائل قدرته ، فيعرفون عظمته وكبرياءه ، وجلاله وجماله ، ويتفكرون فيما أعد الله لمَن عصاه من العذاب ومناقشة الحساب ، وفيما أعد لمَن خافه وأطاعه من الثواب ، وحسن المآب ، فيزدادون خشية ، ورهبة ، ومحبة ، ورغبة في طاعته ، وموجب رضوانه ، دون مَن عداهم من الجهّال . وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم : " أعلمكم بالله أشدكم له خشية " وقال صلى الله عليه وسلم : " رأس الحكمة مخافة الله " . وقال الربيع بن أنس : مَن لم يَخشَ الله فليس بعالم ، وقال ابن عباس في تفسير الآية : كفى بالزهد عِلماً ، وقال ابن مسعود : كفى بخشية الله عِلماً ، وبالاعتذار جهلاً . وفي الحِكَم : " خيرُ علم ما كانت الخشية معه " . وقال في التنوير : اعلم أن العلم حيثما تكرر في الكتاب والسُنَّة فإنما المراد به العلم النافع ، الذي تٌقارنه الخشية ، وتكتنفه المخافة . قال تعالى : { إِنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ } بيّن سبحانه أن الخشية تلازم العلم ، وفهم من هذا أن العلماء إنما هم أهل الخشية . هـ . وقال الشيخ ابن عباد رضي الله عنه : واعلم أن العلم النافع ، المتفق عليه فيما سلف وخلف ، إنما هو العلم الذي يؤدي بصاحبه إلى الخوف والخشية ، وملازمة التواضع والذلة ، والتخلُّق بأخلاق الإيمان ، إلى ما يتبع ذلك من بغض الدنيا والزهادة فيها ، وإيثار الآخرة عليها ، ولزوم الأدب بين يدي الله تعالى ، إلى غير ذلك من الصفات العلية ، والمناحي السنية . هـ . وقال في لطائف المنن : شاهد العلم ، الذي هو مطلب الله تعالى : الخشية ، وشاهد الخشية : موافقة الأمر ، فأما علم تكون معه الرغبة في الدنيا ، والتملُّق لأربابها ، وصرف الهمة لاكتسابها ، والجمع ، والادخار ، والمباهاة ، والاستكثار ، وطول الأمل ، ونسيان الآخرة ، فما أبعد مَنْ هذا نعته مِنْ أن يكون من ورثة الأنبياء ! وهل ينتقل الشيء الموروث إلى الوارث إلا بالصفة التي كان بها عند الموروث عنه . ومثل مَنْ هذه الأوصاف أوصافه من العلماء كالشمعة ، تُضيء على غيرها ، وهي تحرق نفسها . جعل الله العلم الذي علمه من هذا وصفه حجة عليه ، وسبباً في تكثير العقوبة لديه . هـ . وتقديم اسم الله تعالى ، وتأخير العلماء ، يُؤذِن أن معناه : إن الذين يخشون الله من عباده العلماء دون غيرهم . ولو عكس ، بأن قال : إنما يخشى العلماءُ الله ، لكان المعنى : أنهم لا يخشون إلا الله . وقرأ أبو حنيفة وعمر بن عبد العزيز : بنصف " العلماء " ورفع " الله " . والخشية في هذه القراءة بمعنى التعظيم . والمعنى : إنما يعظم اللهُ من عباده العلماءَ . وعنه صلى الله عليه وسلم : " يقول الله للعلماء يوم القيامة إِذا قَعَدَ على كُرسيِّه ، يفصل قضاء عباده : إني لم أجعلْ عِلْمي وحِلْمي فِيكُمْ إلا وأنا أُريدُ أن أغفرَ لكم ، على ما كان فيكم ، ولا أبالي " قال المنذري : انظر إلى قوله : " علمي وحلمي " يتضح لك بإضافته إليه أنه لم يرد به علم أكثر أهل الزمان المجرّد عن العلم به والإخلاص . وفي رواية : " لم أجعل حكمتي فيكم إلا لخير أُريده بكم ، ادخلوا الجنة بما فيكم " . وقال عليه الصلاة والسلام ـ : " يُوزن يوم القيامة مداد العلماء ودماء الشهداء ، فيرجح مداد العلماء على دماء الشهداء " . { إِن الله عزيزٌ غفور } هو تعليل لوجوب الخشية لدلالته على عقوبة العصاة لعزته وغلبته ، وإثابة أهل الطاعة ، والعفو عنهم لعظيم غفرانه ، والمعاقب والمثيب حقه أن يُخشى . الإشارة : العلماء على قسمين : علماء بأحكام الله ، وعلماء بالله ، العلماء بالأحكام يخشون غضبه وعقابه ، والعلماء بالله يخشون إبعاده واحتجابه ، العلماء بالأحكام يتقون مواطن الآثام ، والعلماء بالله يتقون سوء الأدب في حضرة الملك العلاّم . فخشية العلماء بالله أرق وأشد . العلماء بالله أخذوا علمهم من الله ، والعلماء بالأحكام أخذوا علمهم عن الأموات . قال الشيخ أبو يزيد رضي الله عنه : في علماء أهل الرواية : مساكين أخذوا علمهم ميت عن ميت ، وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت . هـ . والفرق بين الخوف والرهبة والخشية : أن الخوف من العقاب ، والرهبة من العتاب ، والخشية من الإبعاد . قال القشيري : والفرق بين الخشية والرهبة : أنَّ الرهبة : خوفٌ يُوجِبُ هَرَبَ صاحبه ، فيجري في تفرقته . والخشية إذا حصلت كَبَحَت صاحبها ، فيبقى مع الله . فقدمت الخشية على الرهبة في الجملة ، والخوف قضية الإيمان ، قال تعالى : { وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } [ آل عمران : 175 ] . والخشية قضية العلم والهيبة . هـ . ثم قال : العالم يخاف تقصيره في حقِّ ربه ، والعارف يخشى من سوء أدبه وترْك احترامٍ ، وانبساط في غير وقت ، بإطلاق لَفْظٍ ، أو تَرخِيص بِترْكِ الأَوْلى . هـ . قال الورتجبي : الخوف عموم ، والخشية خصوص . وقد قرن سبحانه الخشية بالعلم ، أي : العلم بالله وجلاله وقدره وربوبيته وعبوديته له . وحقيقة الخشية : وقوع إجلال الحق في قلوب العارفين ، ممزوجاً بسنا التعظيم ، ورؤية الكبرياء والعظمة ، ولا يحصل ذلك إلا لمَن شاهد القدم ، والأزل ، والبقاء ، والأبد ، فمَن زاد علمه بالله زاد خشية ، لقوله صلى الله عليه وسلم : أنا أعرفكم بالله وأخشاكم منه " . هـ . وفي الحديث : " قيل يا رسول الله : أي الأعمال أفضل ؟ قال : العلم قيل : أيُّ العلم ؟ قال : العلم بالله سبحانه " وقال صلى الله عليه وسلم : " ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعُه ؟ والله إني لأعلمُكم بالله ، وأشدُّكم له خشيةً " . ثم قال : عن جعفر الصادق : العلم أمْرُ تركِ الحرمة في العبادات ، وترك الحرمة في الحياء من الحق ، وترك الحرمة في متابعة الرسول ، وترك الحرمة في خدمة الأولياء الصدّيقين . هـ . ومعنى كلامه : أن العلم الحقيقي هو الذي يأمن صاحِبُه من انتهاك حرمة العبادات ، ومِن هتْك حرمة الاحتشام من الله ورسوله وأوليائه . ومَن أراد من العلماء السلامة من الاغترار بالعلم فليطالع شرح ابن عباد ، في قول الحِكَم : " العلم إن قارنته الخشية فلك ، وإلا ، فعليك " . وبالله التوفيق . ولمَّا ذكر العلماء وذكر حملة القرآن فقال : { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ … }