Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 35, Ayat: 32-35)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله : { ثم أورثنا الكتابَ } أي : أوحينا إليك القرآن ، وأورثناه مَنْ بعدَك ، أي : حكمنا بتوريثه { الذين اصطفينا من عبادنا } وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم من الصحابة والتابعين ، وتابعيهم ، ومَن بعدهم إلى يوم الدين لأنَّ الله اصطفاهم على سائر الأمم ، وجعلهم أمة وسطاً ليكونوا شهداء على الناس ، واختصهم بالانتساب إلى أكرم رسله . قال ابن عطية : الكتاب هنا يراد به معاني القرآن وأحكامه وعقائده ، فكأن الله تعالى أعطى أمة محمد القرآن ، وهو قد تضمن معاني الكتب المنزلة قبله ، فكأنه وَرَّث أمة محمد الكتاب الذي كان في الأمم قبلها . هـ . ثم رتَّبهم مراتب ، فقال : { فمنهم ظالم لنفسه } بالتقصير في العمل به ، وهو المرجأ لأمر الله ، { ومنهم مقتصدٌ } وهو الذي خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً ، { ومنهم سابق بالخيرات } بأن جمع بين علمه والعمل به ، وإرشاد العباد إلى اتباعه . وهذا أوفق بالحديث ، فقد رُوي عن عمر رضي الله عنه أنه قال على المنبر بعد قراءة هذه الآية : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سابقنا سابق ، ومقتصدنا ناج ، وظالمنا مغفور له " وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " السابق يدخل الجنة بغير حساب ، والمقتصد يحاسب حساباً يسيراً ثم يدخل الجنة ، والظالمُ يُحبس ، حتى يظن أنه لن ينجو ، ثم تناله الرحمة ، فيدخل الجنة " رواه أبو الدرداء . وقال ابن عباس رضي الله عنه : السابق ، المخلص ، والمقتصد : المرائي ، والظالم : الكافر النعمة غير الجاحد له ، لأنه حَكَمَ للثلاثة بدخول الجنة . وقال الربيع بن أنس : الظالم : صاحب الكبائر ، والمقتصد : صاحب الصغائر ، والسابق : المجتنب لهما . وقال الحسن : الظالم : مَن رجحت سيئاته ، والسابق : مَن رجحت حسناته ، والمقتصد : مَن استوت حسناته وسيئاته . وسئل أبو يوسف عن هذه الآية فقال : كلهم مؤمنون . وأما صفة الكفار فبعد هذا ، وهو قوله : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ } [ فاطر : 36 ] . وأما الطبقات الثلاث فهم من الذين اصطفى من عباده لأنه قال : فمنهم ، ومنهم ، ومنهم ، والكل راجع إلى قوله : { الذين اصطفينا من عبادنا } فهم أهلُ الإيمان ، وعليه الجمهور . وإنما قدّم الظالم للإيذان بكثرتهم ، وأنّ المقتصد : قليلٌ بالإضافة إليهم ، والسابقون أقل من القليل . وقال ابن عطاء : إنما قدم الظالم لئلا ييأس من فضله . وقيل : إنما قدّمه ليعرّفه أن ذنبه لا يبعده من ربِّه . وقيل : لأن أول الأحوال معصية ، ثم توبة ، ثم استقامة . وقال سهل : السابق : العالم ، والمقتصد : المتعلم ، والظالم : الجاهل . وقال أيضاً : السابق : الذي اشتغل بمعاده ، والمقتصد : الذي اشتغل بمعاشه ومعاده ، والظالم : الذي اشتغل بمعاشه عن معاده . وقيل : الظالم الذي يعبده على الغفلة والعادة ، والمقتصد : الذي يعبده على الرغبة والرهبة ، والسابق : الذي يعبده على الهيبة والاستحقاق . وقيل : الظالم : مَن أخذ الدنيا حلالاً وحراماً ، والمقتصد : المجتهد ألا يأخذها إلا من حلال ، والسابق : مَن أعرض عنها جملة . وقيل : الظالم : طالب الدنيا ، والمقتصد : طالب الآخرة ، والسابق : طالب الحق لا يبغي به بدلاً . جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه . وقال عكرمة والحسن وقتادة : الأقسام الثلاثة في جميع العباد فالظالم لنفسه : الكافر ، والمقتصد : المؤمن العاصي ، والسابق : التقي على الإطلاق . وقالوا هذه الآية نظير قوله تعالى : { وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً } [ الواقعة : 7 ] والتحقيق ما تقدّم . وقوله : { بإِذْنِ الله } أي : بأمره ، أو : بتوفيقه وهدايته { ذلك } أي : إيراث الكتاب والاصطفائية . أو السبق إلى الخيرات { هو الفضلُ الكبيرُ } الذي لا أكبر منه ، وهو { جناتُ عَدْنٍ يدخلونها } أي : الفرق الثلاث لأنها ميراث ، والعاق والبار في الميراث سواء ، إذا كانوا مقرين في النسب . وقرأ أبو عمرو بالبناء للمفعول . { يُحلَّون فيها من أساورَ } جمع أَسورة ، جمع سوار ، { من ذَهَبٍ ولؤلؤاً } أي : من ذهب مرصَّع باللؤلؤ . وقرأ نافع بالنصب ، عطف على محل أساور ، أي : يحلون أساور ولؤلؤاً . { ولباسُهُم فيها حريرٌ } لِمَا فيه من اللذة والليونة والزينة . { وقالوا } بعد دخولهم الجنة : { الحمدُ لله الذي أذْهَبَ عنا الحزَن } خوف النار ، أو : خوف الموت ، أو : الخاتمة ، أو : هَم الرزق . والتحقيق : أنه يعم جميع الأحزان والهموم ، دنيوية أو أخروية ، وعن ابن عمر : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة ، في قبورهم ، ولا في محشرهم ، وكأني بأهل لا إله إلا الله يخرجون من قبورهم ، وهم ينفضون التراب عن وجوههم ، فيقولون : الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن " { إِنَّ ربنا لغفور شكور } يغفر الجنايات ، وإن كثرت ، ويقبل الطاعات ، ويشكر عاملها ، وإن قلَّت . { الذي أحللنا دارَ المُقَامة } أي : دار الإقامة لا نبرح عنها ولا نُفارقها . يقال : أقمت إقامة ومقاماً ومقامة ، { من فضلِهِ } أي : من عطائه وإفضاله ، لا باستحقاق أعمالنا ، { لا يمسنا فيها نَصَبٌ } تعب ومشقة { ولا يمسنا فيها لُغُوبٌ } إعياء وكَلَلَ من التعب ، وفترة إذ لا تكليف فيها ولا كد . نفى عنهم أولاً التعب والمشقة ، وثانياً ما يتبعه من الإعياء والملل . وأخرج البيهقي : أن رجلاً قال يا رسول الله : إن النوم مما يُقِرُّ الله به أعيننا ، فهل في الجنة من نوم ؟ فقال : " إن النوم شريك الموت - أو أخو الموت وإن أهل الجنة لا ينامون أو : ليس في الجنة موت " وفي رواية أخرى ، قال : فما راحتهم ؟ قال : " ليس فيها لغوب ، كل أمرهم راحة " ، فالنوم ينشأ من نصب الأبدان ، ومِن ثِقل الطعام ، وكلاهما منتفيان في الجنة . قال الضحاك : إذا دخل أهل الجنة الجنة ، استقبلهم الولدان والخدم ، كأنهم اللؤلؤ المكنون ، فيبعث الله ملَكاً من الملائكة ، معه هدية من رب العالمين ، وكسوة من كسوة الجنة ، فيلبسه ، فيريد أن يدخل الجنة فيقول الملك : كما أنت ، فيقف ، ومعه عشرة خواتم ، فيضعها في أصابعه ، مكتوب : طبتم فادخلوها خالدين ، وفي الثانية : ادخلوها بسلام ، ذلك يوم الخلود ، وفي الثالثة : رُفعت عنكم الأحزان والهموم ، وفي الرابعة : وزوجناهم بحور عين ، وفي الخامسة : ادخلوها بسلام آمنين ، وفي السادسة : إني جزيتهم اليوم بما صبروا ، وفي السابعة : أنهم هم الفائزون . وفي الثامنة : صرتم آمنين لا تخافون أبداً ، وفي التاسعة : رفقتم النبيين والصديقين والشهداء ، وفي العاشرة : سكنتم في جوار مَن لا يؤذي الجيران . فلما دخلوا قالوا : { الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن … } إلى : { لغوب } . هـ . الإشارة : قال الورتجبي : الاصطفائية تقدمت الوراثة لمحبته ومشاهدته ، ثم خاطبهم بما له عندهم وما لهم عنده . وهذا الميراث الذي أورثهم من جهة نسب معرفتهم به ، واصطفائيته إياهم ، وهو محل القرب والانبساط ، لذلك قال : { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا } ثم قسمهم على ثلاثة أقسام : ظالم ، ومقتصد ، وسابق . والحمد لله الذي جعل الظالم من أهل الاصطفائية . ثم قال : فالظالم عندي والله أعلم الذي وازى القدم بشرط إرادة حمل وارد جميع الذات والصفات ، وطلب كنه الأزلية بنعت إدراكه ، فأي ظالم أعظم منه ؟ إذ طلب شيئاً مستحيلاً ، ألا ترى كيف وصف سبحانه آدم بهذا الظلم بقوله : { وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } [ الأحزاب : 72 ] ، وهذا من كمال شوقه إلى حقيقة الحق ، وكمال عشقه ، ومحبة جلاله . هـ . قلت : وهذا النوع من المتوجهين غلب عليه سُكْر المحبة ، ودهش العشق ، فادعى قوة الربوبية ، وطلب إدراك الألوهية ، ونسي ضعف عبوديته ، فكان ظالماً لنفسه ، من هذا المعنى إذ العبودية لا تطيق إدراك كنه الربوبية . ولو أنه طلب الوصول إليه من جهة فقره ، وضعفه ، لكان مقتصداً ، ولو أنه طلب الوصول إلى الله بالله لكان سابقاً . فالأقسام الثلاثة تجري في المتوجهين فالظالم لنفسه : مَن غلب سُكْره على صحوه في بدايته ، والمقتصد مَن غلب صحوه على سُكْره في بداية سيره ، والسابق مَن اعتدل سُكره مع صحوه في نهايته أو سيره . أو الظالم : السالك المحض ، والمقتصد : المجذوب المحض ، والسابق : الجامع بينهما إذ هو الذي يصلح للتربية . أو الظالم : الذي ظاهره خيرٌ من باطنه ، والمقتصد : الذي استوى ظاهره وباطنه ، والسابق : هو الذي باطنه خير من ظاهره . وعن عليّ كرّم الله وجهه ـ : الظالم : الآخذ بأقوال النبي صلى الله عليه وسلم ، والمقتصد : الآخذ بأقواله وأفعاله ، والسابق : الآخذ بأقواله وأفعاله وأخلاقه . وقال القشيري : ويقال الظالم : مَن غلبت زلاَّته ، والمقتصد : مَن استوت حالاته ، والسابقُ : مَن زادت حسناته . أو : الظالمُ : مَنْ زهد في دنياه ، والمقتصدُ : مَن رغب في عقباه ، والسابق : مَن آثر على الدارين مولاه . أو : الظالم مَن نَجَمَ كوكبُ عقله ، والمقتصد : مَن طَلَعَ بدرُ عِلْمه ، والسابق : مَن ذَرَّت شمسُ معرفته . أو : الظالم : مَن طلبه ، والمقتصد : مَن وجده ، والسابق : مَن بقي معه . أو : الظالم : مَن ترك الزلة ، والمقتصد : مَن ترك الغفلة ، والسابق : مَن ترك العلاقة . أو : الظالم : مَن جاد بنفسه ، والمقتصد : مَن لم يبخل بقلبه ، والسابق : مَن جاد بروحه . أو : الظالم : مَن له علم اليقين ، والمقتصد : مَن له عين اليقين ، والسابق : مَن له حق اليقين . أو : الظالم : بترك الحرام ، والمقتصد : بترك الشُّبهة ، والسابق : بترك الفضل في الجملة . أو : الظالم : صاحب سخاء ، والمقتصد : صاحب جود ، والسابق : صاحب إيثار . أو : الظالم : صاحب رجاء ، والمقتصد : صاحب بسط ، والسابق : صاحب أُنس . أو : الظالم : صاحب خوف ، والمقتصد : صاحب خشية ، والسابق : صاحب هيبة . أو : الظالم له المغفرة ، والمقتصد : له الرحمة ، والسابق : له القُربة ، أو : الظالم : طالب النجاة ، والمقتصد : طالب الدرجات ، والسابق : طالب المناجاة . أو : الظالم : أمن من العقوبة ، والمقتصد : طالب المثوبة ، والسابق : متحقق بالقربة . أو : الظالم : صاحب التوكُّل ، والمقتصد : صاحب التسليم ، والسابق : صاحب التفويض ، أو : الظالم : صاحب تواجد ، والمقتصد : صاحب وجد ، والسابق : صاحب وجود غير محجوب عنه البتة ـ . أو : الظالم : مجذوب إلى فعله ، والمقصد مكاشفٌ بوصفه ، والسابق : مستهلك في حقه ، الذي هو وُجُودُه . أو : الظالم : صاحب المحاضرة ، والمقتصد : صاحب المكاشفة ، والسابق : صاحب المشاهدة . وبعضهم قال : يراه الظالم في الآخرة في كل جمعة ، والمقتصد : في كل يوم مرة ، والسابق : غير محجوبٍ عنه أَلْبتة . هـ باختصار . والتحقيق : أن الأقسام الثلاثة تجري في كل من العارفين ، والسائرين ، والعلماء ، والعُبّاد ، والزهّاد ، والصالحين إذ كل فن له بداية ووسط ونهاية . ذلك السبق إلى الله هو الفضل الكبير ، جنات المعارف يدخلونها ، يُحلَّون فيها من أساور من ذهب ، وهي الأحوال ، ولُؤلؤاً ، وهي المقامات ، ولباسهم فيها حرير ، وهي خالص أعمال الشريعة ولُبها . وقالوا : الحمد لله الذي أذهب عنا الحزَن إذ لا حزن مع العيان ، ولا أغيار مع الأنوار ، ولا أكدار مع الأسرار ، ما تجده القلوب من الأحزان فَلِمَا مُنعت من العيان . ولابن الفارض رضي الله عنه في وصف الخمرة : @ وإن خَطَرتْ يوماً على خاطرِ امرىءٍ أقامتْ بها الأفراحُ وارْتحَلَ الهَمُّ @@ وقال أيضاً : @ فما سَكَنَتْ والهمَّ يوماً بموضِعٍ ، كذلك لم يَسْكُنْ مع النغم الغَمُّ @@ إِنَّ ربنا لغفور بتغطية العيوب ، شكور بكشف الغيوب ، الذي أحلّنا دار المُقامة ، هي التمكين في الحضرة ، بفضله ، لا بحول منا ولا قوة ، لا يمسنا فيها نصب . قال القشيري : إذا أرادوا أن يَرَوْا مولاهم لا يحتاجون إلى قَطْعِ مسافةٍ ، بل هم في غُرَفِهم يشاهدون مولاهم ، ويلقون فيها تحيةَ وسلاماً ، وإذا رأوه لا يحتاجون إلى تحديق مُقلةٍ من جهةٍ ، كما هم يَرَوْنه بلا كيفية هـ . ثم ذكر أضدادهم فقال : { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ … }