Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 36, Ayat: 20-27)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جلّ جلاله : { وجاء من أقصى المدينةِ رجل يسعى } وهو حبيب النجار ، وكان في غارٍ من الجبل يعبد الله ، فلما بلغه خبر الرسل أتاهم ، وأظهر دينه . قال القشيري : في القصة أنه جاء من قرية فسمَّاها مدينة ، وقال : من أقصاها ، ولم يكن بينهما تفاوت كثير ، وكذلك أجرى سُنَّته في استكثار القليل من فِعْلِ عَبْدِه ، إذا كان يرضاه ، ويستنزِرُ الكثيرَ من فضله إذا بَذَلَه وأعطاه . هـ . ولما قَدِم سألهم : أتطلبون على ما تقولون أجراً ؟ فقالوا : لا ، { قال يا قوم اتبعوا المرسلين ، اتبعوا مَن لا يسأَلُكُم أجراً } على تبليغ الرسالة { وهم مهتدون } على جادة الهداية والنصح وتبليغ الرسالة . فقالوا : وأنت على دين هؤلاء ؟ فقال : { وما لي لا أعبدُ الذي فطرني } : خلقني { وإِليه تُرجعون } وفيه التفات من التكلُّم إلى الخطاب ، ومقتضى الظاهر : وإليه أرجع . والتحقيق : أن المراد : ما لكم لا تعبدون ، لكن لمّا عبَّر عنهم بطريق التكلُّم تلطّف في الإرشاد ، بإيراده في معرض المناصحة لنفسه ، وإمحاض النصح ، حيث أراد لهم ما أراد لها ، جرى على ذلك في قوله : { وإليه ترجعون } والمراد : تقريعهم على ترك عبادة خالقهم إلى عبادة غيره . ثم قال : { أأتخذُ من دونه آلهةً } يعني الأصنام ، { إِن يُرِدْنِ الرحمنُ بضُرٍّ } وهو شرطٌ جوابه : { لا تُغْنِ عني شفاعَتُهم شيئاً ولا يُنقِذُون } من مكروه بالنصر والمظاهرة ، { إِني إِذاً } أي : إذا اتخذت إلهاً غيره { لفي ضلالٍ مبين } لفي خطأ بيّن ، لا يخفى على عاقل ، { إِني آمنتُ بربكم فاسمَعُون } أي : اسمعوا إيماني ، لتشهدوا به لي يوم القيامة ، فقتله قومُه . ولمَّا مات { قيل } له : { ادخُلِ الجنةَ } فدُفن في أنطاكية ، وقبره بها . ولم يقل : قيل له لأن الكلام مسوق لبيان القول ، لا لبيان المقول له لكونه معلوماً . وفيه دلالة على أن الجنة مخلوقة الآن . وقال الحسن : لَمَّا أراد القوم أن يقتلوه رفعه الله ، فهو في الجنة ، ولا يموت إلا بفناء السماوات والأرض ، فلما دخل الجنة ورأى نِعَمَهَا ، وما أعدّ الله لأهل الإيمان ، { قال يا ليت قومي يعلمون بما غفرَ لي ربي } أي : بالسبب الذي غفر لي ربي به ، { وجعلني من المكرمين } بالجنة ، وهو الإيمان بالله ورسله ، أو : بمغفرة ربي وإكرامي ، فـ " ما " : موصولة ، حُذف عائدها المجرور ، لكونه جُرّ بما جُرّ به الموصول ، أو : مصدرية ، وقيل : استفهامية . ورُدّ بعدم حذف ألفها . قال الكواشي : تمنى أن يعلم قومُه أنَّ الله قد غفر له ، وأكرمه ، ليرغب قومُه في اتباع الرسل ، فيُسلموا ، فنصح قومَه حيًّا وميتاً . وكذلك ينبغي أن يكون كل داع إلى الله تعالى ، في المجاهدة والنصيحة لعباد الله ، وألاَّ يحقد عليهم إن آذوه ، وأن يكظّم كل غيظ يناله بسببهم . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سُبَّاق الأمم ثلاثة : علي بن أبي طالب ، وصاحب يس ، ومؤمن آل فرعون " هـ . قال القشيري : قد أَبْلَغَ حبيب الوَعْظَ ، وصَدَقَ النُّصْح ، ولكن كما قالوا وأنشدوا : @ وكم سُقْتُ في آثارِكم من نصيحةٍ وقد يستفيد البغةَ المتنصِّحُ @@ فلمَّا صَدَقَ في حاله ، وصَبَرَ على ما لَقِيَ من قومه ، ورجع إلى ربه ، تلقَّاه بحسن إقباله ، وآواه إلى كنف إفضاله ، ووجد ما وعده به من لُطْفِ نواله ، فتَمنَّى أنْ يعلم قومُه حاله ، فَحَقَّقَ مُناة ، وأخبر عن حاله ، وأنزل فيه خطابه ، وعَرَفَ قومُه هـ . الإشارة : أحبُّ الخلق إلى الله أنفعهم لعياله وأنصحهم لهم . وفي الحديث : " لئن يهدي الله بك رَجُلاً واحداً خيرٌ لك من حُمْرِ النِّعَم " فينبغي لمَن أراد الظفر بمحبة الحبيب ، وينال منه الحظوة والتقريب ، أن يتحمّل المشاق في إرشاد عباد الله ، ويستعمل الأسفار في ذلك ، لينال عنده الجاه الكبير ، والقُرب العظيم . حققنا الله بذلك بمنِّه وكرمه . ثم ذكر هلاك قومه ، فقال : { وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَىٰ قَوْمِهِ … }