Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 36, Ayat: 37-40)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله : { وآيةٌ لهم الليلُ نسْلَخُ منه النهارَ } نُخرج منه النهار ، إخراجاً لا يبقى معه شيء من ضوء النهار . مستعار من : سلخ الجلد عن الشاة ، أو : ننزع عنه الضوء نزع القميص الأبيض ، فيعري نفس الزمان ، كشخص أسود ، نزع عنه قميص أبيض لأن أصل ما بين السماء والأرض من الهواء : الظلمة ، فاكتسى بعضه ضوء الشمس ، كبيت مظلم أُسرج فيه ، فإذا غاب السراج أظلم . { فإِذا هم مُّظلِمُونَ } داخلون في الظلام . { و } آية لهم أيضاً { الشمسُ تجري لمُسْتَقَرٍّ لها } لحدّ لها مؤقّت ، تنتهي إليه من فَلكِها في آخر السنة . شبهت بمستقرّ المسافر إذا انتهى سفره ، أو : لحدّ لها من مسيرها كلّ يوم في مرائي عيون الناس ، وهو المغرب . وفي الحديث الصحيح من طريق أبي ذرٍّ ـ : " إنها تسجد كل يوم تحت العرش ، فتستأذن ، فيُؤذن لها ، ويوشك أن تستأذن فلا يُؤذن لها ، فتَطلُعُ من مغربها " ، ذرٍّ قال صلى الله عليه وسلم : " وذلك قوله : { والشمس تجري لمستقر لها } " . وعن ابن عباس : أن الشمس بمنزلة السانية ، تجري بالنهار في السماء في فلكها ، فإذا غربت جرت في الليل تحت الأرض في فَلَكِها ، حتى تطلع من مشرقها ، وكذلك القمر . كذا نقل الكواشي عنه . ولعله لا يناقض ما جاء في الحديث ، من أنها تسجد تحت العرش ، لإحاطة العرش بالجميع ، فهي حيث ما انتهت تحته . ونقل الأقليشي من حديث عكرمة ، عن ابن عباس : ما طلعت شمس حتى ينخسها سبعون ألف ملك ، فيقولون لها : اطلعي ، فتقول : لا أطلع على قوم يعبدونني من دون الله ، فيأتيها ملك من الله ، فيأمرها بالطلوع ، فتستقل بضياء بني آدم ، فيأتيها شيطان يريد أن يصدها عن الطلوع ، فتطلع بين قرينه ، فيحرقه الله تعالى تحتها ، وما غربت شمس قط إلا خرَّت لله ساجدة ، فيأتيها شيطان ، يُريد أن يصدها عن السجود ، فتغرب بين قرنيه ، فيحرقه الله تعالى ، وذلك قوله صلى الله عليه وسلم : " ما طلعت شمس إلا بين قرنَي الشيطان ، ولا غربت إلا بين قرنَي الشيطان " هـ . على نقل شيخ شيوخنا الفاسي . وقرأ ابن عباس وابن مسعود : " تجري لا مستقر لها " ، ومعناها : إنها جارية أبداً ، لا تثبت في مكان . وقراءة الجماعة أوفق بالحديث . { ذلك تقديرُ العزيزِ الحكيمِ } أي : ذلك الجري على ذلك التقدير البديع ، والحساب الدقيق ، تقدير الغالب بقدرته على كل مقدور ، العليم بكل معلوم . { والقمرَ قدَّرناه } من نصبه فبِفِعْل مضمر ، ومن رفعه فمبتدأ ، والخبر : { قدَّرناه منازلَ } وهي ثمانية وعشرون منزلاً : فرع الدلو المقدم ، فرع الدلو المؤخر ، بطن الحوت ، النطْح ، البُطَيْن ، الثُّريَّا ، الدَّبَران ، الهَقْعَة ، الهَنْعَة ، الذِّراع ، النَّثْرة ، الصَّرْفَة ، الجَبْهَة ، الطَّرْفة ، الزَّبرة ، العَوَّاء ، السِّمَاك ، الغَفْر ، الزَّبَاني ، الإِكْليل ، القَلْب ، الشَّوْلة ، النعَائِم ، البَلَدة ، سَعْدُ الذَّابح ، سعد السُّعُود ، سَعْد الأخبية ، ينزل القمر كل ليلة في واحد منها لا يتخطاها ، ولا يتقاصر عنها . على تقدير مستوٍ ، يسيرُ فيها من ليلة المستهلّ إلى الثامنة والعشرين ، ثم يستتر ليلتين ، أو ليلة إذا نقص الشهر . ولا بد في { قدّرناه منازلَ } من تقدير مضاف أي : قدّرنا سيره ، أو نوره ، فيزيد وينقص ، إذ لا معنى لتقدير القمر منازل ، فيكون " منازل " ظرفاً . فإذا كان في آخر منازله ، دقّ وتقوّس ، { حتى عادَ كَالعُرْجُون } أي : كالشّمراخ ، وهو عنقود التمر إذا يبس واعوج . ووزنه فعلون ، من الانعطاف ، وهو الانعراج ، { القديم } العتيق المُحْوِل ، وإذا قُدم دقّ ، وانحنى ، واصفرّ ، فشبه القمر به من ثلاثة أوجه . { لا الشمسُ ينبغي لها } يصح ويستقيم لها { أن تُدرِكَ القَمَرَ } فتجتمع معه في وقتٍ واحد ، وتداخله في سلطانه ، فتطمس نوره قبل تمام وقته لأن لكلِّ واحد من النيّرين سلطاناً على حياله ، فسلطان الشمس بالنهار ، وسلطان القمر بالليل . { ولا الليلُ سابقُ النهارِ } ولا يسبق الليل النهار ، أي : آيةَ الليل لا تسبق آيةَ النهار ، وهي النيّران . ولا يزال الأمرُ على هذا الترتيب إلى أن تقوم الساعة ، فيجمع الله بين الشمس والقمر ، ويُكوران ويُرميان في النار ، { وكلٌّ في فَلَكٍ يَسْبَحُون } أي : وكلهم في فلك يسبحون يسيرون فالتنوين للعوض والضمير للشمس والقمر فإنَّ اختلاف الأحوال يُوجب تعدُّداً ما في الذات ، أو : للكواكب فإن ذكر النيرين مشعر بها { وكل في فلك يسبحون } يقرأ مقلوباً ومرتّباً ، ففيه نوع من البديع . الإشارة : وآيةٌ لهم ليلُ الغفلة نسلخ منه نهارَ اليقظة ، ونهارُ اليقظة ، نسلخ منه ليلَ الغفلة ، فلا يزال العبد بين غفلة ويقظة ، حتى تُشرق عليه شمس العرفان ، وتستقر في قلبه ، فلا غروب لها ، وإليه الإشارة بقول : { والشمس تجري لمستقرٍ لها } ، ومستقرها : قلوب العارفين . وقمر الإيمان قدَّرناه منازل ، ينقص ويزيد ، بزيادة التفرُّع والتوجُّه ونقصانه ، حتى تطلع عليه شمس العرفان ، فينسخ نوره ، فلا زيادة ولا نقصان . قال القشيري : فشبيهُ الشمس عارفٌ أبداً في ضياء معرفته ، صاحبُ تمكينٍ ، غيرُ مُتَلَوِّنٍ ، شُرفَ في بروج سعادته قائماً ، لا يأخذه كسوفٌ ، ولا يستره سحابٌ . وشبيهُ القمر عبدٌ تلوّن أحوالُه في التنقُّل ، صاحب تلوين ، له من البسط ما يرقيه إلى حَدِّ الوصال ، ثم يُرَدُّ إلى الفترة ، ويقع في القبض مما كان فيه من صفاء الحال ، فيتناقص ، ويرجع إلى نقص أمره إلى أن يدفع قلبه عن وقته ، ويجود عليه الحقُّ سبحانه ، فيُوَفِّقُه لرجوعه عن فترته ، وإفاقته من سَكَرتِهِ ، فلا يزال تصفو أحواله ، إلى أن يَقْرُبَ من الوصال ، ويُرزقَ صفة الكمال ، ثم بعد ذلك يأخذ في النقص والزوال ، كذلك حاله إلى أن يُحَقَّ له بالمقسوم ارتحاله ، وأنشدوا : @ كُلَّ يومٍ تَــتَــلَـــونْ غيرُ هذا بِكَ أجمل @@ ثم ذكر دليلاً آخر ، فقال : { وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ … } .