Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 36, Ayat: 55-59)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : " سلام " : بدل من " ما " أو : خبر عن مضمر ، أو : مبتدأ حُذف خبره ، أي : من ذلك سلام ، وهو أظهر ليكون عاماً ، أي : ولهم كل ما يتمنون ، كقوله : { وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ } [ فصلت : 31 ] ومن جملة ذلك : { سلام قولاً من رب رحيم } فيوقف على " ما يدَّعون " . و " قولاً " : منصوب على المصدر المحذوف ، أي : يقال لهم " قولاً " ، وقيل : على الاختصاص . يقول الحق جلّ جلاله : { إِنَّ أَصحابَ الجنةِ اليومَ في شُغلٍ } بضم الغين وسكونها أي : في شغل لا يوصف لِعظم بهجته وجماله . فالتنكير للتعظيم ، وهو افتضاض الأبكار ، على شط الأنهار ، تحت الأشجار ، أو سماع الأوتار في ضيافة الجبار . وعن أبي هريرة وابن عباس رضي الله عنهما قيل : يا رسول الله أَنُفْضِي إلى نسائنا في الجنة ، كما نُفضي إليهن في الدنيا ؟ قال : " نعم ، والذي نفس محمد بيده إن الرجل ليُفضي في الغداة الواحدة إلى مائة عذراء " وعن أبي أمامة : " سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل يتناكح أهل الجنة ؟ فقال : نعم ، بِذَكَرٍ لا يمَلُّ ، وشهوة لا تنقطع ، دحْماً دحْماً " قال في القاموس : دحمه كمنعه : دفعُه شديداً . وعن أبي سعيد الخدري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أهل الجنة إذا جامعوا نساءهم عادوا أبكاراً " ، وفي رواية أبي الدرداء : " ليس في الجنة مَنِّي " وفي رواية : " بول أهل الجنة عرق يسيل تحت أقدامهم مِسكاً " وعن إبراهيم النخعي : جماع ما شئت ، ولا ولد . هـ . فإذا اشتهى الولد كان بلا وجع ، فقد روى الحاكم والبيهقي عنه عليه الصلاة والسلام ـ : " إن الرجل من أهل الجنة ليولد له الولد ، كما يشتهي ، فيكون حمله وفصاله وشبابه في ساعة واحدة " انظر البدور السافرة . قلت : والتحقيق أن شغل أهل الجنة مختلف ، فمنهم مَن هو مشتغل بنعيم الأشباح ، من حور ، وولدان ، وأطعمة ، وأشربة ، على ما يشتهي ، ومنهم مَن هو مشتغل بنعيم الأرواح ، كالنظر لوجه الله العظيم ، ومشاهدة الحبيب ، ومناجاة ، ومكالمات ، ومكاشفات ، وترقيات في معاريج الأسرار كل ساعة . ومنهم مَن يُجمع له بين النعيمين ، وسيأتي في الإشارة . وقوله تعالى : { فَاكِهُون } أي : متلذذون في النعمة ، والفاكه والفكه : المتنعم ، ومنه : الفكاهة لأنه مما يتلذّذ به ، وكذا الفاكهة . ثم قال تعالى : { هُمْ وأَزواجُهم في ظِلالٍ } جمع ظِل ، وهو : الموضع الذي لا تقع عليه الشمس . وفي قراءة " ظُلَل " بالضم ، جمع ظُلة ، كبُرمة وبرام ، وهو ما يسترك عن الشمس ، وظل أهل الجنة لا تنسخه شمس ، قال تعالى : { وَظِلًٍّ مَّمْدُودٍ } [ الواقعة : 30 ] { عَلَى الأَرَآئِكِ } : جمع أريكة ، وهي السرير في الحَجَلة . فالأرائك : السرر المفروشة ، بشرط أن تكون عليها الحَجلة ، وإلا فليست بأريكة ، والحَجَلة : ما يستر السرير من ثوب الحرير . وهم { متكئون } عليها كالملوك على الأسرّة . { لهم فيها فاكهة } كثيرة مما يشتهون . { ولهم ما يَدَّعُون } أي : كل ما يَدعونه يأتيهم فوراً ، فوزنه : يفتعلون ، من الدعاء ، أو : ما يتمنون من نعيم الأشباح والأرواح ، من قولهم : ادَّع عليّ ما شئت ، أي : تمنّه . وقال الفراء : هو من الدعوى ، ولا يدّعون إلا ما يستَحقون . { سلام قولاً من ربٍّ رحيم } أي : من أهم ما يدعون : سلام يقال لهم قولاً من رب رحيم ، بلا واسطة مبالغة في تعظيمهم ، وذلك غاية متمناهم ، مضافاً لرؤيته ، ومن مقتضى الرحمة : الإبقاء عليهم مع ذلك . قال القشيري : يسمعون كلامه وسلامَه بلا واسطة ، وأكَّد بقوله : { قولاً } . وبقوله : { من ربٍّ رحيم } ليُعلم أنه ليس على لسان سفير ، والرحمة في تلك الحالة أن يرزقهم الرؤية في حال التسليم عليهم ، ليكمل لهم النعمة هـ . وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم : " بينا أهل الجنة في نعيمهم ، إذْ سطع لهم نورٌ ، فرفعوا رؤوسهم ، فإذا الربُّ قد أشرف عليهم من فوقهم ، فيقول : السلام عليكم يا أهل الجنة ، فينظر إليهم ، وينظرون إليه " . ثم ذكر أهل البُعد والحجاب ، فقال : { وامتازوا اليومَ أيها المجرمون } أي : انفردوا عن المؤمنين وكونوا على حِدة ، وذلك حين يُحشر المؤمنون ، ويُساق بهم إلى الجنة . وقال قتادة : عزلوا عن كل خير . وعن الضحاك : لكل كافر بيت من النار ، يكون فيه ، لا يَرى ولا يُرى أبداً . هـ . الإشارة : إِنَّ أصحاب الجنة المعجَّلة لأوليائه ، اليوم ، في شُغُل كبير ، لا تجدهم إلا مشتغلين بالله ، بين شهود واستبصار ، وتفكُّر واعتبار ، في محل المشاهدة والمكالمة ، والمناجاة والمساررة ، أوقاتهم محفوظة ، وحركاتهم وسكناتهم بالإخلاص ملحوظة ، فهم في شغل شاغل عن الدنيا وأهلها ، هم ومَن تعلّق بهم في ظلال الرضا ، وبرد التسليم يرتادون ، وفي مشاهدة وجه الحبيب يتنعّمون . قال القشيري : إن أصحاب الجنة اليوم ، أي : طلابها ، والساعون لها ، والعاملون لنيلها ، ولمثل ذلك فليعمل العاملون ، فهم في الدنيا في طلب الجنة عن المنعِم بها ، كما جاء في الحديث : " أكثر أهل الجنة البُلْه " ، ومَن كان في الدنيا عن الدنيا حُرًّا ، فلا يبعد أن يكون في الجنة عن الجنة حُرًّا ، " يختص برحمته من يشاء " قلت : فالبله هم أهل الحجاب ، الذين يعبدون الله لطلب الجزاء ، ويقنعون بالنعيم الحسي ثم قال : ويقال : الحقُّ تعالى لا يتعلَّق به حقٌّ ولا باطل ، فلا تَنَافِيَ بين اشتغالهم بلذاتهم مع أهليهم ، وبين شهودهم مولاهم ، كما أنهم اليوم مستديمون لمعرفته ، بأي حالةٍ كانت . ولا يَقْدَحُ اشتغالهم باستيفاء حُظُوظِهم ، في معارفهم . هـ . مختصراً . قلت : وما في سورة الواقعة ، من ذكر نعيم السابقين ، يدلّ على أنهم يجتمع لهم نعيم الحُور والولدان ، مع نعيم العيان والرضوان لأنهم في الدنيا جمعوا بين القيام بوظائف الشريعة ، ومعاينة أسرار الحقيقة . والله تعالى أعلم . قوله تعالى : { سلام قولاً من ربٍّ رحيم } قال ابن عطاء : السلام جليل عظيم الخطر ، وأجّله خطراً ما كان وقت المشاهدة والمصافحة ، حين يقول : سلام قولاً من رب رحيم . قال القشيري : الرحمة في ذلك الوقت أن يُبقهم في حال سماع السلام ، أو حال اللقاء ، لئلا تصحبهم دهشة ، ولا تلحقهم حيرة . هـ . وقال الورتجبي : سلام الله أزلي الأبد ، غير منقطع عن عباده الصالحين ، في الدنيا والآخرة ، لكن في الجنة تُرفع عن آذانهم جميع الحجب ، فسَمِعُوا كلامه ، ونظروا إلى وجهه كفاحاً . هـ . قلت : وقد يُرفع في دار الدنيا ، فيسمع سلام الله على عباده ، كما وقع لبعض الأولياء ـ . قيل : وفي قوله : { رحيم } إشارة إلى عدم حجبهم عن جماله أبداً ، مع الإبقاء عليهم في حال السلام واللقاء ، فلا تصحبهم دهشة ، كما تقدّم . وقيل : الإشارة في الرحيمية : أن ذلك الوصول ليس باستحقاق ولا سبب من فعل العبد ، وإنما هو بالرحمة ، فيكون للعاصي فيه نَفَسٌ ومساغ للرجاء . قاله المحشي . وقوله : { وامتازوا اليوم } إشارة إلى أن غيبة الرقيب من أتم النعمة ، وإبعادَ العدوِّ من أجَلِّ العوارف ، فالأولياءُ في إيجاب القربة ، والأعداء في العذاب والحجبة . انظر القشيري . ثم ذكر توبيخ أعدائه يوم القيامة ، فقال : { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يٰبَنِيۤ ءَادَمَ … }