Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 36, Ayat: 5-11)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : " تنزيل " : خبر ، أي : هو تنزيل . ومَن نصبه فمصدر ، أي : نُزل تنزيل ، أو : اقرأ تنزيل ، وقرىء بالجر ، بدل من القرآن . و " ما أُنذر " : نعت لقوم . و " ما " : نفي ، عند الجمهور ، أو : موصولة مفعولاً ثانياً لتُنذر ، أي : العذاب الذي أُنْذرَه آباؤهم ، أو : مصدرية ، أي : لتنذر قوماً إنذاراً مثل إنذار آبائهم . يقول الحق جلّ جلاله : هذا أو هو { تنزيل العزيز } أي : الغالب القاهر بفصاحة نظم كتابه أوهامَ ذوي العناد ، { الرحيم } الجاذب بلطافة معنى خطابه أفهامَ ذوي الرشاد . أنزلناه { لتُنذر } به { قوماً } أو : أرسلناك لتنذر قوماً غافلين ، { وما أُنذر آباؤهم } أي : غير منذر آباؤهم ، كقوله : { لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ } [ السجدة : 3 ] وقوله : { ومَآ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ } [ سبأ : 44 ] أو : لتُخوف قوماً العذاب الذي أُنذر به آباؤهم ، لقوله : { إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً } [ النبأ : 40 ] . أو : لتنذر قوماً إنذار آبائهم ، وهو ضعيف إذ لم يتقدم لهم إنذار . { فهم غافلون } إن جعلت " ما " نافية فهو متعلق بالنفي ، أي : لم ينذروا فهم غافلون ، وإلا فهو متعلق بقوله : { إنك لمن المرسلين } لتنذر قوماً ، كقولك : أرسلته إلى فلان لينذره فهو غافل . { لقد حقَّ القولُ على أكثرهم فهم لا يؤمنون } يعني قوله : { لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةٍ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [ السجدة : 13 ] أي : تعلق بهم هذا القول ، وثبت عليهم ووجب لأنه عَلِمَ أنهم يموتون على الكفر . قال ابن عرفة : إنذارهم مع إخباره بأنهم لا يُؤمنون ليس من تكليف ما لا يطاق عقلاً وعادة ، وما لا يطاق من جهة السمع يصح التكليف به ، اعتباراً بظاهر الأمر ، وإلا لزم أن تكون التكاليف كلها لا تطاق ، ولا فائدة فيها لأنَّ المكلفين قسمان : فمَن عَلِمَ تعالى أنه لا يؤمن فلا فائدة في أمره بالإيمان إذ لا يطيق عدمه . هـ . قلت : الحكمة تقتضي تكليفهم لتقوم الحجة عليهم أو لهم ، والقدرة تقتضي عذرهم . والنظر في هذه الدار التي هي دار التكليف للحكمة لا للقدرة . ثم مثّل تصميمهم على الكفر ، وأنه لا سبيل إلى ارْعوائهم ، بأن جعلهم كالمغلولين المقمحين في أنهم لا يلتفتون إلى الحق ، ولا يعطفون أعناقهم نحوه ، وكالحاصلين بين سدّين ، لا ينظرون ما قدّامهم ولا ما خلفهم ، بقوله : { إِنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً فهي إلى الأذقانِ } معناه : فالأغلال واصلة إلى الأذقان ملزوزة إليها ، { فهم مُقمَحُون } مرفوعة رؤوسهم إلى فوق ، يقال : قمح البعيرَ فهو قامح إذا روي فرفع رأسه ، وهذا لأنّ طوق الغلّ الذي في عُنُق المغلول ، يكون في ملتقى طرفيه ، تحت الذقن ، حلقة ، فلا تخليه يطأطىء رأسه ، فلا يزال مقمحاً . والغل : ما أحاط بالعنق على معنى التثقيف والتعذيب . والأذقان والذقن : مجتمع اللحيين . وقيل : " فهي " أي : الأيدي . وذلك أن الغل إنما يكون في العنق مع اليدين . وفي مصحف أُبي : " إنا جعلنا في أيمانهم أغلالاً " وفي بعضها : " في أيديهم فهي إلى الأذقان فهم مقمحون " . { وجعلنا من بين أيديهم سدًّا ومن خلفهم سدًّا } بفتح السين وضمها قيل : ما كان من عمل الناس فبالفتح ، وما كان من خلق الله ، كالجبل ونحوه ، فبالضمّ ، أي : جعلنا الموانع والعوائق محيطة بهم ، فهم محبوسون في مطمورة الجهالة ، ممنوعون عن النظر في الآيات والدلائل ، { فأغشيناهم } أي : فأغشينا أبصارهم ، أي : غطيناها وجعلنا عليها غشاوة ، { فهم لا يُبصرون } الحق والرشاد . وقيل : نزلت في بني مخزوم ، وذلك أن أبا جهل حلف : لئن رأى محمداً يصلّي ليرضخنَّ رأسه ، فأتاه وهو يصلّي ، ومعه حجر ، فلما رفع يده انثنت إلى عنقه ، ولزق الحجرُ بيده ، حتى فكّوه عنها بجَهد ، فرجع إلى قومه ، فأخبرهم ، فقال مخزوميّ : أنا أقتله بهذا الحجر ، فذهب ، فأعمى الله بصره ، فلم يَر النبيَّ صلى الله عليه وسلم ، وسمع قوله ، فرجع إلى أصحابه ، ولم يرهم حتى نادوه . وقيل : هي ذكر حالهم في الآخرة ، وحين يدخلون النار ، فتكون حقيقة . فالأغلال في أعناقهم ، والنار محيطة بهم . والأول أرجح وأنسب لقوله : { وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون } أي : الإنذار وتركه في حقهم سواء إذ لا هادي لمَن أضلّه الله . رُوي أن عمر بن عبد العزيز قرأ الآية في غيلان القدريّ ، فقال غيلان : كأني لم أقرأها قط ، أُشهِدك أني تائب عن قولي في القدر . فقال عمر : اللهم إِنْ صَدَقَ فتُبْ عليه ، وإن كذب فسلّطْ عليه مَن لا يرحمه ، فأخذه هشام بن عبد الملك من غده ، فقطع يديه ورجليه ، وصلبه على باب دمشق . ثم ذكر مَن ينفعه الإنذار ، فقال : { إِنما تُنْذِرُ مَن اتَّبَعَ الذِّكْرَ } أي : إنما ينتفع بإنذارك مَن تبع القرآن { وخَشِيَ الرحمن بالغيب } وخاف عقاب الله قبل أن يراه ، أو : تقول : نُزِّل وجود الإنذار لمَن لم ينتفع به منزلة العدم ، فمَن لم يُؤمن كأنه لم يُنذر ، وإنما الإنذار لمَن انتفع به . { فَبَشِّرْهُ بمغفرةٍ } وهو العفو عن ذنوبه ، { وأجرٍ كريمٍ } الجنة وما فيها . الإشارة : كل مَن تصدّى لوعظ الناس ، وإنذارهم ، على فترة من الأولياء ، يقال له : لِتُنذر قوماً ما أُنذر آباؤهم فهم غافلون . ويقال في حق مَن سبق له الإبعاد عن طريق أهل الرشاد : لقد حقَّ القولُ على أكثرهم ، فهم لا يؤمنون . إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً تمنعهم من حط رؤوسهم لأولياء زمانهم ، وجعلنا من بين أيديهم سدًّا : موانع تمنعهم من النهوض إلى الله ، ومن خلفهم سدّاً : علائق تردهم عن حضرة الله ، فأغشيناهم : غطَّينا أعين بصيرتهم ، فلا يرون خصوصية أحد ممن يدلّ على الله ، فهم لا يُبصرون داعياً ، ولا يُلبون منادياً ، فالإنذار وعدمه في حقهم سواء ، ومعالجة دائهم عناء . قال الورتجبي : سد ما خلفهم سد قهر الأزل ، وسد ما بين أيديهم شقاوة الأبد ، فبنفسه منعهم من نفسه . لا جرم أنهم في غشاوة القسوة ، لا يبصرونه أبداً . هـ . إنما ينتفع بتذكير الداعين إلى الله مَن خشع قلبه بذكر الله ، واشتاقت رُوحه إلى لقاء الله ، فبشِّره بمغفرة لذنوبه ، وتغطية لعيوبه ، وأجر كريم ، وهو النظر إلى وجه الله العظيم . ثم ردّ على من أنكر البعث ، ممن سبق له الشقاء ، فقال : { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي ٱلْمَوْتَىٰ وَنَكْتُبُ … }