Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 37, Ayat: 11-21)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله : { فَاسْتَفْتِهِمْ } أي : فاستخبر كفّار مكّة { أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً } أي : أقوى خلقاً وأعظم ، أو : أصعب خلقاً وأشقه . { أَم مَّنْ خَلَقْنَا } يعني ما ذكر من السماء والأرض وما بينهما ، وما يعمرهما من الملائكة والكواكب ، والشُهب الثواقب ؟ وجيء بـ " مَنْ " تغليباً للعقلاء . ويدلّ عليه قراءة مَن قرأ : أم من عددنا بالتشديد والتخفيف . والقصد : الرد على منكري البعث ، فإنَّ مَن قدرَ على خلق هذه العوالم ، على عظمها ، كان على بعثهم أقدر . ثم ذكر ضعف أصلهم بقوله : { إِنا خلقناهم من طين لازب } لاصق باليد ، أو : لازم . وقرىء به ، أي : يلزم مَن جاوره ويلصق به . وهذا شاهد عليهم بالضعف لأن ما يصنع من الطين غير موصوف بالصلابة والقوة . أو احتجاج عليهم بأن الطين اللازب الذي خُلقوا منه إنما هو تراب ، فمن أين استنكروا أن نخلق من تراب مثله خلقاً آخر ؟ حيث قالوا : { أَءِذَا كُنَّا تُرَاباً } [ الرعد : 5 ] ، الخ ، وهذا المعنى يعضده ما يتلوه بعدُ من ذكر إنكارهم البعث . { بل عَجِبْتَ } من تكذيبهم إيَّاك ، وإنكارهم البعث ، { ويَسْخَرون } هم منك ، ومن تعجُّبك ، أو : مِن أمر البعث ، قال الكواشي : ولَمَّا لم تؤثِّر فيهم البراهين ، أَمَرَ نبيَّه عليه الصلاة والسلام بالإضراب عنهم ، والإعجاب منهم ، حيث لم يؤمنوا به وبالبعث ، والمعنى : إنك تعجبت من تكذيبهم ، وهم يسخرون منك ومن تعجُّبك . هـ . قال قتادة : لَمَّا نزل القرآنُ عجب منه النبي صلى الله عليه وسلم ، واعتقد أنه لا يسمعه أحد إلا آمن به ، فلما سَمِعَه المشركون ، ولم يؤمنوا ، وسخروا ، تعجَّب من ذلك . هـ . وذكر ابن عطية وغيره : أن الآية نزلت في رُكانة ، الذي صرعه صلى الله عليه وسلم ، وذكر ابن عبد البر : أنه أسلم يوم الفتح . هـ . وقرأ الأخوان " عجبتُ " بضم التاء ، أي : استعظمت . والعجَبُ : روعة تعتري الإنسان عند استعظام الشيء لخفاء سببه ، وهو في حقه تعالى مُحال ، ومعناه : التعجُّب لغيره ، أي : كل مَن يرى حالهم يقول : عجبت ، ونحوه : قوله صلى الله عليه وسلم : " عجب الله من شاب ليست له صبوة " وهو عبارة عما يُظهره الله في جانب المتعجب منه ، من التعظيم أو التحقير ، أو : قل يا محمد : عجبتُ ويسخرون . { وإِذا ذُكِّروا لا يذْكُرون } أي : ودأبهم أنهم إذا وُعظوا بشيء لا يتعظون به . { وإِذا رَأَوْا آيةً } معجزة ، كانشقاق القمر ، ونحوه ، { يَسْتَسْخِرُونَ } يُبالغون في السخرية ، ويقولون : إنه سحر ، ويستدعي بعضهم بعضاً أن يسخر منها ، { وقالوا إِن هذا } ما هذا { إِلا سحر مبينٌ } ظاهر سحريته ، { أَإِذَا مِتنا وكنا تُراباً وعظاماً أئِنا لمبعُوثُون } أي : أَنُبعث إذا كنا تُراباً وعظاماً ؟ { أوَ آبَاؤُنا الأولون } فمن فتح الواو عطف على محلّ " إِنّ " واسمها ، والهمزة للإنكار ، أي : أَوَيُبعث أيضاً آباؤنا الأولون الأقدمون ، على زيادة الاستبعاد ، يعنون أنهم أقدم ، فبعثهم أبْعد وأبطل . ومَن سَكَّن فَمِنْ عطفِ أحد الشيئين ، أي : أيُبعث واحد منا ، على المبالغة في الإنكار . { قُلْ نَعَم } تُبعثون { وأنتم داخرون } صاغرون . { فإِنما هي زَجْرَةٌ واحدة } أي : صيحة واحدة ، وهي النفخة الثانية ، والفاء : جواب شرط مقدر ، أي : إذا كان كذلك فما هي إلا صيحة واحدة ، وهي مبهمة ، يُفسرها خبرها . أو : فإنما البعثة زجرة واحدة . والزجرة : الصيحة ، من قولك : زجر الراعي الإبلَ والغنمَ : إذا صاح عليها ، { فإِذا هم } أحياء { ينظرون } إلى سوء أعمالهم ، أو : ينظرون ما يحلُّ بهم . { وقالوا يا ويلنا } الويل : كلمة يقولها القائل وقت الهلكة ، { هذا يومُ الدينِ } اليوم الذي يُدانُ فيه العباد ، ويُجازون بأعمالهم . { هذا يومُ الفصلِ } أي : يوم القضاء والفرق بين فرق الهدى والضلالة ، { الذي كنتم به تُكذِّبون } يحتمل أن يكون قوله : { هذا يوم الدين } من كلام الكفرة ، بعضهم مع بعض ، وأن يكون من كلام الملائكة لهم ، وأن يكون { يا ويلنا هذا يوم الدين } من كلام الكفرة ، وما بعده كلام الملائكة ، جواباً لهم . والله تعالى أعلم . الإشارة : الإنسان فيه عالَمان ، عالَم في غاية الضعف والخِسة ، وهي بشريته الطينية ، أصلها من ماء مهين . وعالَم في غاية القوة والكمال ، وهي روحانيته السماوية النوارنية ، فإذا حييت الروح بالعلم بالله ، واستولت على البشرية ، استيلاء النار على الفَحمة ، أكسبتها القوة والشرف ، وإذا ماتت الروح بالغفلة والجهل ، واستولت عليه البشرية أكسبتها الضعف والذل ، والعارف الكامل هو الذي ينزل كل شيء في محله ، فينزل الضعف في ظاهره ، والقوة في باطنه ، فظاهره يمتد من الوجود بأسره ، وباطنه يمُد الوجود بأسره . فمَن نظر إلى أصل ظاهره تواضع وعرف قدره ، ولذلك قال سيدنا علي كرّم الله وجهه : ما لابن آدم والفخر ، وأوله نطفة مذرة ، وآخره جيفة قذرة ، وفيما بينهما يحمل العذرة . هـ . ومَن نظر إلى باطنه تاه على الوجود بأسره ، لكن من آداب العبد : ألا يُظهر بين يدي سيده إلا ما يناسب العبودية ، من الضعف ، والذل ، والفقر ، فإذا تحقّق بوصفه مدَّه اللهُ بوصفه . وبالله التوفيق . ثم ذكر مثال أهل الكفر ، فقال : { ٱحْشُرُواْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ … }