Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 37, Ayat: 40-50)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جلّ جلاله : { إِلا عبادَ الله المخلصين } بفتح اللام ، وكسرها أي : لكن عباد الله المخلصين في أعمالهم ، أو : الذين أخلصهم الله ونجاهم من الشرك ، فليسوا مع أولئك المعذّبين ، بل { أولئك } المخلصون { لهم رزق معلومٌ } يأتيهم بكرة وعشياً ، كحال المياسير في الدنيا ، فهو معلوم الوقت لأن النفس إليه أسكن . قال القشيري : قد كان في وقت الرسول صلى الله عليه وسلم مَن له رزقٌ معلومٌ ، فهو من جملة المياسير ، وهذه صفة أهل الجنة ، لهم في الآخرة رزقٌ معلوم لأبشارهم وأسرارهم ، فالأغنياء اليوم لهم رزق معلوم لأبشارهم ، والفقراء لهم رزق معلوم لقلوبهم وأسرارهم . هـ . ثم فسّره بقوله : { فواكِهُ } : جمع فاكهة ، وهي كل ما يتلذّذ به ، فليس قوتهم لحفظ الصحة ، بل رزقهم كله فواكه لأنهم مستغنون عن حفظ الصحة بالأقوات لأن أجسامهم نورانية مخلوقة للأبد ، فما يأكلونه إنما هو للتلذُّذ . أو : معلوم ، أي : منعوت بخصائص خلق عليها من طيب طعم ، ورائحة ، ولذّة ، وحسن منظر ، { وهم مكرَمُون } : معظَّمون . قال القشيري : من ذلك : ورود الرسُل عليهم من قِبَلِ الله عزّ وجل في كل وقت ، وكذلك اليومَ الخطابُ وارد على قلوب الخواص في كل وقتٍ بكلِّ أمر . هـ . وقوله : { في جناتِ النعيم } إما ظرف لمكرمون ، أو : حال ، أو : خبر ، أي : في جنةٍ ليس فيها إلا النعيم المقيم . وكذا { على سُرُرٍ متقابلينَ } : يُقابل بعضها بعضاً ، إن استوت درجتهم ، فالتقابل أتم للسرور . وآنس . { يُطاف عليهم بكأسٍ } إناء من زجاج فيه شراب ، ولا يكون كأساً حتى يكون فيه شراب ، وإلا فهو إناء . وقد تسمّى الخمر كأساً . قال الأخفش : كل كأس في القرآن فهو خمر . ومثل لابن عباس . { من مَّعِين } من خمر معين ، أي : جارية في أنهار ظاهرة للعيون ، وصف بما وصف به الماء لأنه يجري في الجنة أنهاراً ، كما يجري الماء ، قال تعالى : { وأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ } [ محمد : 15 ] . وقوله : { بيضاءَ } صفة للكأس ، أي : صافية في نهاية اللطافة . { لذةٍ للشاربين } أي : لذيذة للشاربين ، وصفت باللذة ، كأنها نفس اللذَة وعينُها . أو : ذات لذة . { لا فيها غَوْلٌ } أي : لا تغتال عقولَهم فتذهب بها ، كخمر الدنيا ، وهو من : غاله يغوله : إذا أهلكه وأفسده . أو : لا فيها غول : إثم ، أو وجع بطن أو صداع ، وهو وجع الرأس ، أي : لا ينشأ عنها شيء مما ذكر . { ولا هم عنها يُنْزَفُون } يسكرون ، من : نُزِف الشارب : إذا ذهب عقله . ويقال للسكران : نزيف ، ومنزوف . ومَن قرأ بكسر الزاي فمعناه : لا يَنْفَد شرابهم ، يقال : أنزف الرجل فهو مُنزف : إذا فنيت خمرته . { وعندهم قَاصِرَاتُ الطرْفِ } أي : حور قصرت أبصارهنّ على أزواجهن ، لا يمددن طرفاً إلى غيرهم { عِينٌ } : جمع عيناء ، أي : نجلاء ، واسعة العين . يقال : رجل أعين ، وامرأة عيناء ، ورجال ونساءٌ عينٌ . { كأنهنَّ بَيْضٌ مكنونٌ } مصون مستور . شبههنّ ببيض النعام المكنون من الريح والغبار ، في الصفاء والبياض . { فأقبل بعضُهم على بعضٍ يتساءلون } في الجنة ، تساؤل راحة وتنعُّم . والمعنى : أنهم يشربون ويتحادثون على الشرب ، كعادة الشَّرْب . قال الشاعر : @ ومَا بَقيتُ من اللَّذَّاتِ إِلاَّ أحاديثُ الكِرَامِ عَلَى المُدَامِ @@ أو : أقبل بعضهم على بعض يتساءلون عما جرى عليهم في الدنيا . وجيء به ماضياً على ما عرف في أخباره المحققة الوقوع . الإشارة : المخلَصين بالفتح أبلغ من المخلِصين بالكسر المخلَصين : أخلصهم الله واصطفاهم ، والمخلِصين : طالبين الإخلاص ، مجتهدين فيه ، الأولون مجذوبون ، والآخرون سالكون ، الأولون محبوبون ، والآخرون مُحبون ، الأولون واصلون ، والآخرون سائرون . قال القشيري : والإخلاص : إفرادُ الحقِّ سبحانه بالعبودية ، فالذي يشوبُ عمله برياء ليس بمخلص . ويقال : الإخلاص : تصفية العمل ، لا توفيقه ، وفي الخبر : " يا معاذ ، أخلص العملَ ، يكفك القليل منه " ويقال : الإخلاص : فقد رؤية الأشخاص . هـ . { أولئك لهم رزق معلوم } للمخلَصين بالفتح رزق أرواحهم وأسرارهم ، من النظر إلى وجه الحبيب في كل ساعة . وللمخلصين ، رزق أشباحهم مما يشتهون . وقد يجتمع لهما ، ويغلب لكل واحد ما كان الغالب على همته في الدنيا . وهم مكرمون بالتقريب والمشاهدة ، على قدر سعيهم هنا ، ويشربون كأس المحبة والاصطفاء على قدر شربهم هنا خمرة المعاني ، وشرب المعاني على قدر الغيبة عن حس الأواني والزهد في بهجتها . وقوله تعالى : { فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون } كان من تمام نعيمهم في الشرب : التحادث عليها بما يُناسب حالها ، ومدحها ، كما قال الشاعر : @ وإذا جلست إلى المُدام وشُربه فاجعل حديثك كله في الكاس @@ كذلك العارف إذا جلس مجلس الفكرة ، وغاب في الشهود والنظرة ، لا يجول إلا في عظمة الذات ، وأسرارها ، وبهائها ، وجمالها ، لا يخطر على باله غيرها ، فحديث روحه وسره كله في الخمرة الأزلية . هذه هي الفكرة الصافية ، والنظرة الشافية ، متعنا الله بها على الدوام . آمين . ثم ذكر حال من يعوق عن شرب هذه الخمرة ، فقال : { قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ … }