Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 37, Ayat: 99-111)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : " معه " : يتعلق بمحذوف ، أي : بلغ السعي يسعى معه ، ولا يتعلق ببلغ لأنه يقتضي الاشتراك في البلوغ ، ولا بالسعي لأن المصدر لا يتقدم عليهم عموله ، إلا أن يُقال : يتسع في الظروف ما لا يتسع في غيرها . يقول الحق جلّ جلاله : { وقال } إبراهيمُ : { إِني ذاهبٌ إِلى ربي } إلى موضع أمرني ربي بالذهاب إليه ، وهو الشام ، أو : إلى مرضاة ربي ، بامتثال أمره بالهجرة أو : إلى المكان الذي أتجرّد فيه إلى عبادة ربي ، { سَيَهدين } أي : سيرشدني إلى ما فيه صلاح ديني ، أو : إلى مقصدي ، وإنما بتَّ القول لسبق وعده لأن الله وعده بالهداية ، أو : لفرط توكله ، أو : للبناء على عادته معه . ولم يكن كذلك حال موسى عليه السلام حيث عبَّر بما يقتضي الرجاء . ثم قال : { ربِّ هَبْ لي من الصالحين } بعض الصالحين ، يُعينني على الدعوة والطاعة ، ويُونسي في الغربة . يريد الولد لأن لفظ الهبة غلب على الولد . { فبشَّرناه بغلامٍ حليم } انطوت البشارة على ثلاث : على أنّ الولد ذكر ، وأنه يبلغ أوانَ الحُلم لأن الصبيَّ لا يُوصف بالحلم ، وأنه يكون حليماً ، وأيّ حليم أعظم من حلمه ، حيث عرض عليه أبوه الذبح وهو مراهق ، فقال : { سَتَجِدُنِى إِن شَآءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ } [ الصافات : 102 ] ، ثم استسلم . وقيل : ما نعت الله نبيًّا بالحلم إلا إبراهيم وابنَه لمَعَزَّةِ وجوده . { فلما بلغ معه السعيَ } أي : فلما وُجدَ وبلغ أن يسعى مع أبيه في أشغاله وحوائجه ، أي : الحدّ الذي يقدر على السعي مع ابنه ، وكان إذ ذاك ابن ثلاث عشرة سنة . وقيل : سبع سنين . { قال يا بُني إِني أرى في المنام أَنِّي أَذْبَحُك } أي : قيل له في المنام : اذبح ابنك . ورؤيا الأنبياء وحي ، كاليقظة . قال الكواشي : لم يرَ أنه يذبحه في النوم ، ولكنه أُمر في النوم بذبحه ، بدليل قوله : { افعل ما تؤمر } . وقيل : رأى أنه يُعالج ذبحه ، ولم يرَ إراقة الدم . وقال قتادة : رؤيا الأنبياء حق ، إذا رأوا شيئاً فعلوه . وفي رؤيا ذلك في النوم وتحققه إياه حتى عمل بما رأى ، إيذان بأن الأنبياء قد تجوهرت نفوسهم ، فلا مجال للكذب فيما يُوحى إليهم ، وفيما يصدر عنهم ، فهم صادقون مصدِّقون ، فليس للشيطان عليهم سبيل ، وإيذان بأن مَن كان في منامه صادقاً كان يقظته أولى بالصدق . هـ . وإنما لم يقل : " رأيت " لأنه رأى مرة بعد أخرى ، فقد قيل : رأى ليلة التروية كأنّ قائلاً يقول له : إن الله يأمرك بذبح ابنك هذا ، فلما أصبح روَّى في ذلك من الصباح إلى الرواح ليعلم أَمِنَ اللهِ هذا الحلم ، أم لا ، فسُمِّي يوم التروية ، فلما أمسى رأى مثل ذلك ، فعرف أنه من الله ، فسُمِّي يوم عرفة ، ثم رأى مثله في الليلة الثالثة ، فهمَّ بنحره ، فسُمِّي يوم النحر . واخْتُلِف مَن المخاطب المأمور بذبحه ، فقال أهل الكتابين : هو إسحاق ، وبه قال عمر ، وعليّ ، وابن مسعود ، والعباس ، وابنه عبد الله ، وكعب الأحبار ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، ومسروق ، وعكرمة ، والقامس بن أبي بَرّة ، وعطاء ، ومقاتل ، والزهري ، والسدي . قال سعيد بن جبير : أُريَ إبراهيم ذبح إسحاق في المنام ، فسار به على البراق مسيرة شهر في غداة واحدة ، حتى أتى المنحر بمِنى ، فلما صرف عنه الذبح ، وأمره أن يذبح الكبش ، وذبحه ، سار به مسيرة شهر في روحة واحدة ، طُويت له الأودية والجبال . هـ . واحتج أهل هذا القول بأنه ليس في القرآن أن إبراهيم بُشِّر بولد إلا بإسحاق ، وقال هنا : { فبشرناه بغلام } فتعيَّن أنه إسحاق إذ هو المبَشَّر به في غير هذه الآية ، وبأن الذي كان يسعى معه في حوائجه وأشغاله إنما هو إسحاق ، وأما إسماعيل فإنما كان بمكة غائباً عنه ، ولم يثبت في الصحيح أن إبراهيم قَدِمَ مكة إلا ثلاث مرات وإسماعيل متزوج . وبما رُوي أن موسى عليه السلام قال : يا رب الناس يقولون : إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، فبمَ ذلك ؟ فقال : إن إبراهيم لم يعدل بي شيئاً قط إلا اختارني ، وإن إسحاق جاد لي بالذبح ، وهو لي بغير ذلك أجود ، وإن يعقوب كلما زدته بلاءً زاد لي حسن ظن . وقال يوسف للملك : أترغب أن تأكل معي ، وأنا والله يوسف بن يعقوب ، نبي الله ، ابن إسحاق ، ذبيح الله ، ابن إبراهيم ، خليل الله . وبما رُوي أن نبينا عليه الصلاة والسلام سُئل : أي النسب أشرف ؟ فقال : " يوسف صدِّيق الله ، ابن يعقوب إسرائيل الله ، ابن إسحاق ذبيح الله ، ابن إبراهيم خليل الله " وفي الجامع الصغير : " الذبيح إسحاق " رواه الدارقطني عن ابن مسعود ، والبزار وابن مردويه عن العباس ، وأبي هريرة . وقال آخرون : هو إسماعيل ، وبه قال عُمر ، وأبو الطفيل عامر بن واثلة ، وسعيد بن المسيب ، والشعبي ، ويوسف بن مهران ، ومجاهد ، وابن عباس أيضاً ، وغيرهم . واحتجُّوا بأن البشارة بإسحاق متأخرة عن قصة الذبح . وبقوله عليه السلام : " أنا ابن الذبيحين " فأحدهما : جده إسماعيل ، والآخر : أبوه ، فإن عبد المطلب نذر أن يذبح ولداً إن سَهُل له حفر زمزم ، أو بلغ بنوه عشراً ، فلما سَهُل ، أقرع بينهم ، فخرج السهم على عبد الله ، فَفَدَاه بمائة من الإبل ، ولذلك سنت الدية مائة . وبأن ذلك كان بمكة ، وكان قرنا الكبش معلَّقين بالكعبة حتى احترقا معها في أيام ابن الزبير ، ولم يكن إسحاق ثمة . هـ . وقد يُجاب بأن البشارة أولاً كانت بولادته ، والثانية بنبوته ، أو : بسلامته . وبأن الثانية تفسير للأولى ، كأنه قال بعدما فرغ من ذكر المبشر به : وكانت تلك البشارة بإسحاق . قاله الفاسي في حاشيته . وعن الحديث بأن العم يُطلق عليه أباً ، كقوله تعالى : { نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ ءَابَآئِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ } [ البقرة : 133 ] وكان عمًّا له ، وتقدّم عن ابن جبير أن إبراهيم سار بابنه على البراق إلى مكة وحيث كان الذبح بها بقي القربان فيها . والله تعالى أعلم بغيبه . ولَمَّا قال له : { إِني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر } به { ستجدني إِن شاء الله من الصابرين } على الذبح . رُوي أن إبراهيم قال لابنه : انطلق بنا نُقرب قرباناً لله تعالى ، فأخذ سكيناً وحبلاً ، ثم انطلق معه ، حتى إذا ذهب بين الجبال ، قال له الغلام : يا أبتِ أين قربانك ؟ فقال : { يا بُني إِني أرى في المنام … } الآية ، فقال : يا أبت خذ بناصيتي ، واجلس بين كتفي ، حتى لا أؤذيك إذا أصابتني الشفرة ، ولا تذبحني وأنا ساجد ، واقرأ على أمي السلام ، وإن رأيت أن تردّ قميصي إلى أمي فافعل ، عسى أن يسليها عني . قال إبراهيم : نِعْمَ العون أنت على أمر الله تعالى . فربطه إبراهيم عليه السلام ثم جعل يُقبّله ، وهو يبكي ، والابن يبكي ، حتى استنقعت الدموع تحت خده . { فلما أَسْلَمَا } أي : انقادا لأمر الله وخضعا . وعن قتادة : أسلم هذا ابنه ، وهذا نفسه . { وتَلَّه للجبين } صرعه على جنبه ، ووضع السكين على حلقه ، فلم تعمل ، ثم وضع السكين على قفاه فانقلب السكين ، ونودي : يا إبراهيم قد صدّقتَ الرؤيا . رُوي أنَّ ذلك المكان عند الصخرة التي بمِنى . وجواب " لما " محذوف ، أي : فلما أسلما رُحما وسَعدا . وقال بعض الكوفيين : الجواب : وتله والواو : زائِدة . وقال الكسائي : الجواب : وناديناه والواو زائدة . وقال الخليل وسيبويه : الجواب محذوف ، أي : فلما أسلما سَلِما . وقدّر الراضي : فلما أسلما كان من لطف الله ما لا يوصف . هـ . { وناديناه أن يا إِبراهيمُ قد صَدَّقْتَ الرؤيا } أي : حققت ما أمرناك به في المنام ، من تسليم الولد للذبح ، وبالعزم والإتيان بالمقدمات ، { إِنا كذلك نجزي المحسنين } تعليل لما خوّلهما من الفرج بعد الشدة . والحاصل : أن الجزاء هو الوقاية من الذبح ، مع إمرار السكين ، ولم تقطع ، جزاء على إحسانهما ، وقد ظهرت الحكمة بصدقهما ، فإن المقصود إخلاء السر من عادة الطبيعة ، لا تحصيل الذبح ، رُوي أنه لما أمرّ السكين فلم تقطع ، تعجّب . فنُودي : يا إبراهيمُ كان المقصود من هذا استسلامكما ، لا ذبح ولدك . { إِنَّ هذا لَهُوا البلاءُ المبينُ } الاختبار البيّن ، الذي يتميز فيه المخلصون من غيرهم . أو : المحنة البيّنة الصعبة ، فإنه لا محنة أصعب منها . { وفديناه بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } : ضخم الجثة سمين . قال ابن عباس : هو الكبشُ الذي قرّبه هابيل فقُبل منه ، وكان يرعى في الجنة حتى فُدِي به ولد إبراهيم . وعنه : لو تمت تلك الذبيحة لصارت سُنَّة ، وذَبَحَ الناسُ أولادهم . رُوي أن الكبش هرب من إبراهيم عند الجمرة ، فرماه سبع حصيات ، حتى أخذه ، فبقيت سُنَّة في الرمي . قلت : والجمهور : أن الشيطان تعرض له عند ذهابه لذبح ولده ، ثلاث مرات ، فرماه سبع حصات عند كل مرة ، فبقيت سُنَّة في الرمي . ورُوي أنه لما ذبحه ، قال جبريل : الله أكبر ، فقال الذبيح : لا إله إلا الله ، والله أكبر ، فقال إبراهيم : الله أكبر ولله الحمد ، فبقيت سُنَّة صبيحة العيد . قال البيضاوي : واحتج به من جوّز النسخ قبل الفعل ، فإنه عليه السلام كان مأموراً بالذبح ، لقوله : { افعل ما تؤمر } ولم يحصل . هـ . قال سيدي عبد الرحمن الفاسي في الحاشية : وَلَمَّا بذل إبراهيم وسعه ، وفعل ما يفعله الذابح من ضجعه على شقه ، وإمرار الشفرة على حلقه ، لم يكن هذا من النسخ قبل الفعل ، وإن كان ورود النسخ قبل الفعل جائز ، لكن هذه الآية ليست منه في شيء لأنه عليه السلام باشر الفعل بقدر الإمكان وبذل المجهود ، ولم يكن منه تقصر ، ولو لم يمنع مانع القدرة الإلهية لتمّ الذبح المأمور به ، لهذا قال تعالى : { صَدَّقْتَ الرؤيا } وإنما احتيج إلى الفداء لتحصيل حقيقة الذبح فيه نيابة عن المفدي شرعاً ، وعلامة على غاية القبول والرضا عنهما ، وعوض عن ذلك ما هو كرامة لهما ، ولمَن بعدهما إلى غابر الدهر . هـ . وقيل : إن هذه الآية نُسخ بها الأمر بالذبح قبل التمكين من الفعل ، بناءً على أن إبراهيم لم يمر الآلة . وعزاه المحلي في جميع الجوامع لمذهب أهل السنة . وعليه ينزل الفداء ، ثم قال : والحق : إن الآية من المنسخ قبل تمام الفعل وكماله ، لا قبل الأخذ فيه ومعالجته . ثم اعترض كلام ابن عطية ، وقال : فيه تدافع ، فانظره . { وتركنا عليه في الآخِرِين } أي : الثناء الحسن في الأمم الآخرين ، { سلامٌ على إبراهيم } سبق بيانه في نوح { كذلك نجزي المحسنين } لم يقل : إنا كذلك ، هنا ، كما في غيره لأنه قد سبق في القصة ، فاكتفى هنا عن ذكره . { إِنه من عبادنا المؤمنين } فيه تنويه بشأن الإيمان لأنه أساس لكل ما يُبنى عليه من معرفةٍ وإحسان . الإشارة : قال إني ذاهب إلى ربي بالتوجه والعزم ، سيهدين إلى صريح معرفته ، ومكافحة رؤيته ، ودوام شهوده . فالذهاب إليه يُفضي إلى الذهاب فيه ، وهو غيبة العبد عن شهود نفسه ، بشهود محبوبه ، وهذه الحالة متبوعة للامتحان إذ امتحان كل عبد على قدر مقامه ، فكلما علا المقام عَظُمَ الامتحان . فامتحن الخليل بأربع محن : تسليم بدنه للنيران ، وولده للقربان ، ورمي آخر عند البيت في يد الرحمن ، وذهاب زوجه للجبّار ، فوقع اللطف في الجميع ، واصطفى خليلاً للرحمن . وأيضاً : الحق غيور ، لا يُحب أن يرى في قلب خليله أو وليّه شيئاً سواه ، فأمر بذبح ولده لإخراجه من قلبه ، كما فرّق بين يوسف ووالده ، وامتحن حبيبَه صلى الله عليه وسلم في عائشة صدِّيقته ، وهذه عادة الله مع أصفيائه . قال القشيري : يُقال في القصة : أنه رآه راكباً على فرس أشهب ، فاستحسنه ، ونظر إليه بقلبه ، فأُمر بذبحه ، فلما أخرجه من قلبه ، واستسلم لذبحه ، ظَهَرَ الفداء . وقيل له : كان المقصودُ من هذا فراغَ قلبك منه ، لا ذبحه . ويقال في القصة : أنه أمَرَ أباه أن يَشُدّ يديه ورِجْلَيه لئلا يضطربَ إذا مَسَّهُ ألمُ الذبح ، فيُعاتَب ، ثم لمَّا هَمَّ بذبحِه قال : افتح القيدَ عني ، فإني لا أتحرك ، فإني أخشى أن أُعاتب ، فيقول : أمشدودَ اليد جئتني ؟ وأنشدوا : @ ولو بيدِ الحبيبِ سُقِيتُ سُمًّا لكان السُّمُّ من يدهِ يطيب @@ قيل : إن الولد كان أشدَّ بلاء ، لأنه وَجَدَ الذبح من يد أبيه ، ولم يتعوَّد منه إلا التربية بالجميل ، فكان البلاء منها أشد إذ لم يتوقعه منها . وقيل : بل إبراهيم أشد بلاء لأنه كان يحتاج أن يذبح ابنه بيده ، ويعيش بعده ، ولم يأتِ الولد بالدعوى ، بل قال : إن شاء الله ، فتأدّب بلفظ الاستثناء . ثم قال : ويقال : إنَّ الله ستر عليهما ما عَلِمَ أنه أريد منهما في حال البلاء ، وإنما كشف لهما بعد مُضِيِّ وقت المحنة ، لئلا يَبْطُلُ معنى الابتلاء ، وهو توجُّع القلب بالقهرية ، وكذلك لما ألقي في النار أخفي عنه المراد منه ، وهو السلامة منها ليحصل معنى الابتلاء . وهكذا يكون الحال في حال البلاء ، [ يسند عيون التهدي إلى الحال ] . وكذلك كان حال نبينا صلى الله عليه وسلم في الإفك ، وأيوب عليه السلام ، وإنما تبيّن الأمر بعد ظهور أجر المحنة وزوالها ، وإلاَّ لم تكن حينئذ محنة ، ولكن مع استعجام الحال وانبهامه إذ لو كشف الأمر عن صاحبه لم يكن حينئذ بلاء . هـ . ملخصاً . ثم قال تعالى : { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً … }