Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 38, Ayat: 16-20)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله : { وقالوا } أي : كفار مكة لَمَّا سمعوا بتأخير عقابهم إلى الآخرة : { ربنا عَجِّل لنا قِطَّنَا } أي : حظّنا من العذاب الذي وعدتنا به ، { قبل يوم الحساب } ولا تؤخره إلى الصيحة المذكورة . وفي القاموس : القِط بالكسر النصيب ، والصَّك ، وكتاب المحاسبة . هـ . أو : عَجِّل لنا صحيفة أعمالنا لننظر فيها ، أو : حظنا من الجنة لأنه صلى الله عليه وسلم ذكر وعد الله المؤمنين بالجنة ، فقالوا على سبيل الهزء : عَجِّل لنا نصيبنا منها . وتصدير دعائهم بالنداء للإمعان في الاستهزاء ، كأنهم يدعون ذلك بكمال الرغبة . { اصْبِرْ على ما يقولون } من أمثال هذه المقالات الباطلة . ثم سلاّه بما يقص عليه من خبر الأنبياء عليهم السلام الذين كانت بدايتهم أيام المحن ، ثم جاءتهم أيام المنن ، وبدأ بنبيه داود عليه السلام ، فقال : { واذكر عبدَنا داودَ } ، فإنه كان في أول أمره ضعيفاً ، يرعى الغنم ، ثم صار نبيّاً مَلِكاً ، ذا الأيادي العظام . وقوله : { ذَا الأيدِ } أي : ذا القوة في الدين ، والملكَ ، والنبوة . يقال : فلان ذو يد وأيد وأياد ، بمعنى القوة ، وأياد كل شيء : ما يتقوّى به . { إِنه أوَّابٌ } : رجّاع إلى الله في كل شيء ، أو : إلى مرضاة الله تعالى . وهو تعليلٌ لكونه ذا الأيد ، ودليل على القوة في الدين فإنه كان عليه السلام يصوم يوماً ويُفطر يوماً ، وهو أشدُّ الصوم ، ويقومُ نصفَ الليل ، مع مكابدة سياسة النبوة والمُلك والشهود ، فقد أعطى القوة في الجهتين . { إِنا سخَّرنا الجبالَ معه } أي : ذللناها له ، تسير معه حيث يريد . ولم يقل " له " لأن تسخير الجبال له عليه السلام لم يكن بطريق التفويض الكلي ، كتسخير الرياح وغيرها لابنه ، بل بطريق التبعية ، والاقتداء به في عبادة الله تعالى . وقيل : { معه } متعلق بـ { يُسَبّحْن } ، أي : سخرناها تُسبِّح معه ، إما بلسان المقال ، يخلق الله لها صوتاً ، أو : بلسان الحال ، أي : يقدس الله تعالى ويُنزهه عما لا يليق به . والجملة : حال ، أي : مسبِّحات ، واختيار الفعل ليدل على حدوث التسبيح من الجبال ، وتجدُّده شيئاً بعد شيء ، وحالاً بعد حال ، { بالعَشِيّ } في طرفي النهار ، والعشيّ : وقت العصر إلى الليل { والإِشراقِ } ، وهو حين تُشرق الشمس ، أي : تضيء ، وهو وقت الضحى ، وأما شروقها الثلاثي فطلوعها ، تقول : شرقت الشمس ولمّا تُشرق ، أي : طلعت ولم تضىء . وعن ابن عباس رضي الله عنه : ما عرفت صلاة الضحى إلا بهذه الآية . وعنه عليه الصلاة والسلام أنه صلّى عند أم هانىء صلاة الضحى ، وقال : " هذه صلاة الإشراق " . { والطيرَ محشورةً } أي : وسخّرنا الطير مجموعة من كل ناحية . عن ابن عباس رضي الله عنه : كان إذا سبّح ، جاوبته الجبال بالتسبيح ، واجتمعت إليه الطير ، فسبَّحت ، فذلك حشرها . { كلٌّ له أواب } أي : كل واحد من الجبال والطير لأجل تسبيح داود . ووضع الأوّاب موضع المسبّح لأن الأوّاب : الكثير الرجوع إلى الله تعالى ، من عادته أن يكثر ذكر الله ، ويدير تسبيحه وتقديسه على لسانه . وقيل : الضمير لله ، أي : كل من داود والجبال والطير أوّاب ، أي : مسبّح لله تعالى ومرجّع للتسبيح ، وقيل : لداود ، أي : يرجع لأمره . { وشَدَدْنا مُلْكَه } أي : قوّيناه بالهيبة والنصرة وكثرة الجنود . قيل : كان بيت المقدس حول محرابه ثلاثة وثلاثون ألف رجل . قال القشيري : ويقال : وشددنا ملكه بالعدل في القضية ، وحسن السيرة في الرعية ، أو : بدعاء المستضعفين ، أو : بقوم مناصحين ، كانوا يَدُلونه على ما فيه صلاح ملكه ، أو : بقبوله الحق من كل أحد ، أو : برجوعه إلينا في عموم الأوقات . هـ . وقال ابن عباس : أن رجلاً من بني إسرائيل استعدى على رجل من عظمائهم إلى داود ، فقال المستعدي : إن هذا غصبني بقرتي ، فجحد الآخر ، ولم تكن له بينة ، فقال داود : قُوما حتى أنظر في أمركما ، فأوحى الله تعالى إلى داود في منامه : أن اقْتُل الرجل الذي استعدِيَ عليه ، فتثبت داود حتى أوحى الله إليه ثلاثاً أن يقتله ، أو تأتيه العقوبة من الله ، فأرسل داود إلى الرجل : أن الله قد أوحى إليَّ أن أقتلك ، فقال : تقتلني بغير بينة ؟ فقال : نعم ، والله لأنفذنَّ أمرَ الله فيك ، فلما عرف الرجلُ أنه قاتله ، فقال : لا تعجل عليَّ حتى أخبرك أن الله تعالى لم يأخذني بهذا الذنب ، الذي هو السرقة ، ولكني كنتُ قتلتُ أبا هذا غِيلة ، وأخذتُ البقرة ، فقتله داود ، فقال الناس : إذا أذنب أحد ذنباً أظهره الله عليه فقتله ، فهابوه ، وعظمت هيبته في القلوب هـ . { وآتيناه الحكمة } النبوة ، وكمال العلم ، وإتقان العمل ، والإصابة في الأمور ، أو : الزبور وعلم الشرائع . وكل كلام وافق الحق فهو حكمة . { وفَصْلَ الخطاب } علم القضاء وقطع الخصام ، فكان لا يتتعتع في القضاء بين الناس ، أو : الفصل بين الحق والباطل . والفصل : هو التمييز بين الشيئين ، وقيل : الكلام البيِّن ، بحيث يفهمه المخاطب بلا التباس ، فصْل بمعنى مفصول ، أو : الكلام البيِّن الذي يبين المراد بسرعة ، فيكون بمعنى فاصل ، والمراد : ما أعطاه الله من فصاحة الكلام ، الذي كان يفصل به بين الحق والباطل ، والصحيح والفاسد ، في قضاياه وحكوماته ، وتدابير الملك ، والمشورات . وعن عليّ رضي الله عنه : " هو الْبَيِّنَةُ على المُدَّعِي ، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ " وعن الشعبي : " هو : أما بعد " فهو أول مَن تكلم بها ، فإنَّ مَن تكلم في الذي له شأن يفتتح بذكر الله وتحميده ، فإذا أراد أن يخرج إلى الغرض المسوق له الكلام ، فصل بينه وبين ذكر الله بقوله : أما بعد . الإشارة : فاصبر أيها الفقير على ما يقولون فيك ، وتسلّ بمَن قبلك من أهل الخصوصية الكبرى والصغرى ، ففيهم أُسوة حسنة لمَن يرجو الوصول إلى الله تعالى . وقوله تعالى : { إِنَّا سخَّرنا الجبالَ معه … } الخ . قال القشيري : كل مَن تحقق بحالة ساعده كل شيء . هـ . قلت : وفي الحِكَم : " أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكوِّن ، فإذا شهدت المكوِّن كانت الأكوان معك " وبالله التوفيق . ثم ذكر امتحان داود عليه السلام ، فقال : { وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ ٱلْخَصْمِ } .