Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 38, Ayat: 21-25)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جلّ جلاله : { وهل أتاك نبأ الخصم } استفهام ، معناه التعجُّب والتشويق إلى استماع ما في حيزه لأنه من الأنباء البديعة ، والأخبار العجيبة . والخصم في الأصل : مصدر ، ولذلك يطلق على الواحد والجمع ، كالضيف والزوْر . وأريد هنا اثنان ، وإنما جمع الضمير بناء على أن أقل الجمع اثنان . { إذ تسوَّروا المحراب } أي : تصعّدوا سوره ونزلوا إليه . والسور : الحائط المرتفع ، ونظيره : تسنمه : إذا علا سنمه . والمحراب : الغرفة ، أو : المسجد ، سمي محراباً لتحارب الشيطان فيه والخواطر الردية . و " إذ " : متعلق بمحذوف ، أي : نبأ تحاكم الخصمين ، أو بالخصم لِمَا فيه من معنى الخصومة ، { إِذ دخلوا على داودَ } : بدل مما قبله ، أو : ظرف لتَسوروا ، { فَفَزِعَ منهم } : تروَّع منهم . رُويَ أن الله تعالى بعث إليه ملكين في صورة إنسانين ، قيل : جبريل وميكائيل ، فطلبا أن يدخلا عليه ، فوجداه في عبادته ، فمنعهما الحرس ، فتسوّروا عليه المحراب ، فلم يشعر إلا وهما بين يديه ، جالسان ، ففزع منهم لأنهم دخلوا عليه في غير يوم القضاء ، ولأنهم نزلوا من فوق ، وفي يوم الاحتجاب ، والحرس حوله لا يتركون مَن يدخل عليه . قال الحسن : جزأ داود عليه السلام الدهر أربعة أجزاء يوماً لنسائه ، ويوماً للعبادة ، ويوماً للقضاء ، ويوماً للمذاكرة مع بني إسرائيل . فدخلوا عليه يوم عبادته . فلما فزع { قالوا لا تخفْ } ، نحن { خصمانِ بَغَى بعْضُنا على بعض } أي : ظلم وتطاول عليه ، { فاحكمْ بيننا بالحق ولا تشْطِطْ } لا تَجُرْ ، من : الشطط ، وهو مجاوزةُ الحدّ وتخطي الحق ، { واهدنا إِلى سواء الصراط } وأرشدنا إلى وسط الطريق ومحجته ، والمراد : عين الحق وصريحه . رُوي : أن أهل زمان داود عليه السلام كان يسألُ بعضهم بعضاً أن ينزل له عن امرأته ، فيتزوجها إذا أعجبته ، وكان لهم عادة في المواساة بذلك . وكان في أول الإسلام شيء من ذلك بين المهاجرين والأنصار ، فاتفق أنَّ عَيْنَ داودَ عليه السلام وقعت على امرأة أورِيا ، وكانت جميلة ، فأحبّها ، فسأله النزولَ له عنها ، فاستحيا أن يردّه ، ففعل ، فتزوجها ، وهي أم سليمان فعُوتب في ذلك ، وقيل له : إنك مع عظيم منزلتك ، وكثرة نسائك ، لم يكن ينبغي لك أن تسأل رجلاً ليس له إلا امرأة واحدة ، كان الواجب عليك مغالبةُ هواك ، وقهر نفسك ، واصبر على ما امتحِنْتَ به . وقيل : خطبها أوريا ، وخطبها داود ، فآثره أهلها ، فكانت زلته أن خطب على خطبة أخيه المؤمن مع كثرة نسائه . هـ . ولعلم لم يكن محرماً في شرعهم ، وإنما كان خلاف الأَولى . وقال شيخ شيوخنا في حاشيته : لا يصح هذا في حق الأنبياء ، وما يُحكى أنه بعث أوريا إلى الغزو مرة بعد مرة ، وأحبّ أن يُقتل ليتزوجها ، فلا يليق من المتسمين بالصلاح من أبناء الناس ، فضلاً عن بعض أعلام الأنبياء . وقال عليّ كرّم الله وجهه ـ : مَن حدّثكم بحديث داود عليه السلام على ما يرويه القصَّاص جلدتْه مائةً وستين ، وهو حدّ الفرية على الأنبياء يعني الحدّ مرتين ـ . ورُويَ : أن رجلاً حدّث بها عند عُمر بن عبد العزيز ، وعند رجلٌ من أهل الحق ، فكذَّب المحدِّث ، وقال : إن كانت القصة على ما في كتاب الله ، فما ينبغي أن يُلتمَس خلافُها ، ولا أن يُقال غير ذلك ، وإن كانت على ما ذكرتَ ، وقد سترها الله على نبيه ، فما ينبغي إظهارَها عليه ، فقال عمر : لَسَماعي لهذا الكلام أحبّ إليّ مما طلعت عليه الشمس . والذي يدلُّ عليه المثل الذي ضربه الله لقصته عليه السلام ليس إلا أنه طلب من زوج المرأة أن ينزل عنها فحسب ، فتزوجها ، وإنما جاءت على طريق التمثيل والتعريض ، دون التصريح لكونها أبلغ في التوبيخ ، من قِبَل أنّ المتأمل إذا أدّاه إلى الشعور بالمعرِّض به كان أوقع في نفسه ، وأَشَدّ تمكُّناً من قلبه ، وأعظم أثراً فيه ، مع مراعاة حسن الأدب ، بترك المجاهرة بالعتاب . قاله النفسي . ثم ذكر التعريض بقوله : { إِن هذا أَخي } في الدين ، أو : في الصداقة ، أو : الشركة . والتعبير به لبيان كمال قُبح ما فعل به صاحبه ، { له تِسعٌ وتسعونَ نَعْجَةً } النعجة : الأنثى من الضأن ، وقد يُكنى بها عن المرأة ، والكناية والتعريض أبلغ من التصريح . { وَلِيَ نَعْجةٌ واحدة } لا أملك غيرها ، { فَقال اكْفِلنيهَا } أي : ملِّكنيها ، واجعلني أكفلها كما أكفل ما تحت يدي ، { وعَزَّني } غلبني { في الخطاب } في الخصومة ، أي : كان أقدر مني على الاحتجاج والمجادلة ، أو : غلبني في الخِطبة ، حيث خطبتُ وخطبَ ، فأخذها ، وهذا منهما تعريض وتمثيل ، كأنهما قالا : نحن كخصمين هذه حالهما ، فمثّلت قصة أورِيا مع داود بقصة رجل له نعجة واحدة ، وخليطه له تسع وتسعون ، فأراد صاحبه تتمة المائة ، فطمع في نعجة خليطه ، وحاجّه في أخذها ، محاججة حريص على بلوغ مراده . وإنما كان ذلك على وجه التحاكم إليه ، ليحكم بما حكم به من قوله : { قال لقد ظَلَمَكَ بسؤال نعجَتِكَ إلى نِعَاجِه } ، حتى يكون محجوباً بحكمه . وهو جوابُ عن قسم محذوف ، قصد به عليه السلام المبالغة في إنكار فعل صاحبه به ، وتهجين طمعه في نعجة مَن ليس له غيرها ، مع أنَّ له قطيعاً منها . ولعله عليه السلام قال ذلك بعد اعتراف صاحبه بما ادّعاه عليه ، أو : بناه على تقدير صدق المدعي ، أي : إن كنت صدقت فقد ظلمك ، والسؤال : مصدر مضاف إلى المفعول ، وتعديته إلى مفعول آخر لتضمينه معنى الضم { وإِنَّ كثيراً من الخُلَطاءِ } الشركاء الذين خلطوا أموالهم ، { لَيبغي بعضُهم على بعضٍ } غير مراع لحق الصحبة والشركة ، { إِلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } منهم ، فإنهم يتحامَوْن عن البغي والعدوان ، { وقليلٌ ماهم } أي : وهم قليل . و " ما " : مزيدة للإبهام ، والتعجُّب من قِلتهم . والجملة : اعتراض . { وظنَّ داودُ أَنما فتناه } ، الظن مستعار للعلم الاستدلالي لما بينهما من المشابهة الظاهرة ، أي : علم بما جرى في مجلس الحكومة وقيل : لمّا قضى بينهما نظر أحدُهما إلى الآخر ، فضحك ، ثم صعدا إلى السماء فعلم عليه السلام أنه تعالى ابتلاه . والقصر مُنصَّب على الفتنة ، أي : علم أنما فعلناه به فتنة وامتحان . واختلف في سبب امتحانه ، قيل : لأنه تمنّى منزلة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، وقال : يا رب أرى الخير كله ذهب به آبائي ، فأوحى إليه : إني ابتليتهم ، فصبروا ، فابتلي إبراهيم بنمروذ وبذبح ولده ، وإسحاق بالذبح . ويعقوب بالحزن على يوسف وذهاب بصره ، وأنت لم تُبتل بشيءٍ ، فقال : يا رب ابتلني بمثل ما ابتليتهم به ، فابتلي بالمرأة . وقيل : إنه ادعى القوة ، وقال : إنه لا يخاف من نفسه قط ، فامتُحن ، { فاستغفر ربَّه } إثر ما علم أن ما صدر منه ذنب { وخَرَّ راكعاً } أي : ساجداً ، على تسمية السجود ركوعاً ، أو : خرَّ راكعاً مصلياً صلاة التوبة ، { وأنابَ } أي : رجع إلى الله بالتوبة ، رُوي : أنه بقي ساجداً أربعين يوماً يبكي ، حتى نبت البقل من دموعه ، ولم يشرب ماءً إلا وثلثاه دموع ، واشتغل بذلك عن المُلك ، حتى وثب ابن له ، يقال له : " إيشا " على ملكه ودعا إلى نفسه ، واجتمع إليه أهل الزيغ من بني إسرائيل ، فلما غفر له حاربه فهزمه . هـ . وهذا الموضع فيه سجدة عند مالك ، خلافاً للشافعي ، إلا أنه اختلف في مذهب مالك هل سجد عند قوله : { وأناب } أو عند قوله : { وحُسنَ مآبٍ } . وروى الترمذي " عن أبي سعيد الخدري : أنه رأى في المنام شجرة تقرأ سورة " ص " ، فلما بلغت : " وأناب " سَجَدَت ، وقالت : اللهم اكتب لي بها أجراً ، وحطّ عني بها وزراً ، وارزقني بها شكراً ، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود ، فقال له عليه الصلاة والسلام ـ : " وسجدتً أنت يا أبا سعيد ؟ " قلت : لا . قال : " كنتَ أحق بالسجود من الشجرة " ، ثم تلى نبي الله الآيات ، حتى بلغ : { وأناب } فسجد ، وقال كما قالت الشجرة . { فغفرنا له ذلك } أي : ما استغفر منه . قال القشيري : ولمّا أوحى الله بالمغفرة ، قال : يا رب كيف بحديث الخصم ؟ أي : الرجل الذي ظلمته فقال : قد استوهبتك منه . هـ . وفي رواية : إني أعطيه يوم القيامة ما لم ترَ عيناه ، فأستوهِبك منه فيهبك لي ، قال : يا رب الآن قد عرفتُ أنك غفرت لي . هـ . قال تعالى : { وإِن له عندنا لزُلْفَى } لقُربى وكرامة بعد المغفرة ، { وحُسْنَ مَآبٍ } مرجع في الجنة . الإشارة : إنما عُوتب داود عليه السلام لأنه التفت إلى الجمال الحسي الفرقي ، دون الجمال المعنوي الجمعي ، ولو سبته المعاني بجمالها ما التفت إلى الجمال الفرقي ، فلما نبّهه الحق تعالى استغفر ورجع إلى الجمال المعنوي ، الذي هو جمال الحضرة القدسية ، وعبارة شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي رضي الله عنه : عدَّ عليه التفاته عن الجمال المطلق عن الأشكال والصُور إلى المقيد بهما ، وهي مقام تفرقة ، لا مقام جمع ، فاستغفر ورجع إلى شهود الفاعل جمعاً ، عن شهود فعله فرقاً ، فخلع عليه خلعة الخلافة والله أعلم . هـ . قال القشيري : قال داود عليه السلام : يا رب إني أجد في التوراة أنك أعطيت الأنبياء الرتب العالية ، فأعطينها ؟ فقال : إنهم صبروا لمّا ابتليتهم ، فوعد من نفسه الصبر إذا ابتلاه ، طمعاً في مثل تلك الرتب ، فأخبر أنه يبتليه يوم كذا ، فلما جاء ذلك اليوم دخل خلوته ، وأغلق أبوابه ، ولم يُمكنه غلق باب السماء . وقد قال الحكماء : الهارب مما هو كائن في كف الطالب يتقلّب . ثم إنه كان في البيت كوة ، يدخل منها النور ، فدخل منها طير صغير ، كأنه من ذهب ، وكان لداود ولد صغير ، فهمَّ أن يقبضه لابنه ، فما زال يحاول ويتبعه حتى وقع بصره على المرأة ، فامتحن بها ، فلم يدع به الاهتمام بولده حتى فعل ما فعل ، وفي ذلك لأولي الأبصار عبرة . هـ . وقال عند قوله : { فغفرنا له ذلك } : التجأ داود عليه السلام في أوائل البلاء إلى التوبة ، والبكاء ، والتضرُّع ، والاستكانة ، فوجد المغفرةَ والتجاوز . وهكذا مَن رَجع في أوائل الشدائد إلى الله ، فالله يكفيه ويتوب عليه ، وكذلك مَن صَبَرَ إلى حينِ طالت عليه المحنة . ويقال : إن زلة قدّرها عليك ، توصلك إليه بندمك ، أحرى بك من طاعة ، إعجابك بها يُقصيك عن ربك . هـ . وفي الحِكَم : " معصية أورثت ذُلاًّ وافتقاراً ، خير من طاعة أورثت عزًّا واستكباراً " وقال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه : كل سوء أدب يُثمر لك حُسن أدب فهو أدب . هـ . ولمَّا تحققتْ إنابته ، جعله اللهُ خليفةً ، كما قال : { يٰدَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي ٱلأَرْضِ } .