Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 38, Ayat: 26-28)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله : { يا داودُ إِنا جعلناك خليفةً في الأرض } أي : استخلفناك على المُلك فيها ، والحُكم فيما بين أهلها ، أو : جعلناك عمَّن كان قبلك من الأنبياء القائمين بالحق ، وفيه دليل على أن حاله عليه السلام بعد التوبة ، كما كان قبلها ، لم يتغير قط ، خلاف ما نقله الثعلبي من تغيُّر حاله وصوته ، ومنع الطيور من إجابته ، فانظره . { فاحكمْ بين الناس بالحق } بحكم الله تعالى ، إذ كنت خليفته ، أو : بالعدل ، { ولا تتبع الهوى } أي : هوى النفس في الحكومات ، وغيرها من أمور الدين والدنيا ، بل قِفْ عند ما حدّ لك . وفيه تنبيه على أن أقبح جنايات العبد متابعةُ هواه ، { فيُضلك عن سبيل الله } أي : فيكون الهوى ، أو اتباعه ، سبباً لضلالك عن دلائله اللاتي نصبها على الحق ، تكويناً وتشريعاً . و " يُضلك " : منصوب في جواب النهي ، أو : مجزوم ، فُتح لالتقاء الساكنين . { إِن الذين يَضِلُّون عن سبيل الله } عن طريقه الموصلة إليه . وأظهر " سبيلَ الله " في موضع الإضمار للإيذان بكمال شناعة الضلال عنه ، { لهم عذاب شديد بما نَسُوا } بسبب نسيانهم { يوم الحساب } فإنَّ تذكره وترداده على القلب يقتضي ملازمة الحق ومباعدة الهوى . { وما خلقنا السماء والأرضَ وما بينهما } من المخلوقات على هذا النظام البديع { باطلاً } أي : خلقاً باطلاً ، عارياً عن الحكمة ، أو : مبطلين عابثين ، بل لحِكَم بالغة ، وأسرارٍ باهرة ، حيث خلقنا من بيْنها نفوساً ، أودعناها العقل لتميز بين الحق والباطل ، والنافع والضار ، ومكنَّاها من التصرفات العلمية والعملية ، في استجلاب منافعها ، واستدفاع مضارها ، ونصبنا لها للحق دلائل آفاقية ، ونفسية ، ومنحناها القدرة على الاستشهاد بها ، ثم لم نقتصر على ذلك المقدار من الألطاف ، بل أرسلنا إليها رسلاً ، وأنزلنا عليها كتباً ، بيَّنَّا فيها كيفية الأدب معنا ، وهيئة السير إلى حضرة قدسنا ، وقيَّضنا لها جهابذة ، غاصوا على جواهر معانيها ، فاستخرجوا منها كيفية المعاملة معنا ، ظاهراً وباطناً ، وأوعدنا فيها بالعِقَاب لمَن أعرض عنها ، ووعدنا بالثواب الجزيل لمَن تمسّك بها ، ولم نخلق شيئاً باطلاً . { ذلك ظنُّ الذين كفروا } ، الإشارة إلى خلق العبث ، والظن بمعنى المظنون ، أي : خَلْقُها عبثاً هو مظنون الذين كفروا ، وإنما جُعلوا ظانين أنه خلقها للعبث ، وإن لم يصرحوا بذلك لأنه لمّا كان إنكارهم للبعث ، والثواب ، والحساب ، والعقاب ، التي عليها يدور فلك تكوين العالم ، مؤدياً إلى خلقها عبثاً ، جُعِلوا كأنهم يظنون ذلك ويقولونه لأن الجزاء هو الذي سيقت إليه الحكمة في خلق العالم ، فمَن جحده فقد جحد الحكمة في خَلْق العالم . { فويل للذين كفروا من النار } . الفاء سببية لإفادة ثبوت الويل لهم على ظنهم الباطل ، وأظهر في موضع الإضمار للإشعار بأن الكفر علة ثبوت الويل لهم ، و " من النار " : تعليلية ، كما في قوله : { فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ } [ البقرة : 79 ] أي : فويل لهم بسبب النار المترتبة على ظنهم وكفرهم . { أم نجعلُ الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض } ، " أم " : منقطعة ، والاستفهام فيها للإنكار ، والمراد أنه لو بطل الجزاء كما تقول الكفَرة لاستوت أحوال أتقياء المؤمنين وأشقياء الكفرة ، ومَن سوّى بينهما كان سفيهاً ، ولم يكن حكيماً ، أي : بل أنجعل المؤمنين المصلحين كالكفرة المفسدين في أقطار الأرض ، كما يقتضيه عدم البعث وما يترتب عليه من الجزاء لاستواء الفريقين في التمتُّع في الحياة الدينا ، بل الكفرة أوفر حظًّا فيها من المؤمنين ، مع صبر المؤمنين ، وتعبهم في مشاق الطاعات ، لكن ذلك الجعل محال ، فتعيّن البعث والجزاء لرفع الأولين إلى أعلى عليين ، وخفض الآخرين إلى أسفل سافلين . { أم نجعلُ المتقين كالفجارِ } إنكار للتسوية بين الفريقين المذكورين ، وحمل الفجار على فجرة المؤمنين مما لا يُساعده المقام ، ويجوز أن يراد بهذين الفريقين عين الأولين ، ويكون التكرير باعتبار وصفين آخرين ، هما أدخل في إنكار التسوية من الوصفين الأولين . وقيل : قالت قريش للمؤمنين : إنا نُعْطَى من الخير يوم القيامة مثل ما تُعْطَونَ ، فنزلت . الإشارة : قال الورتجبي : ولَمَّا خرج داودُ من امتحان الحق وبلائه ، كساه خلعة الربوبية ، وألبسه لباسَ العزة والسلطنة ، كآدم خرج من البلاء ، وجلس في الأرض على بساط فلك الخلافة ، وذلك بعد كونهما متخلقين بخلق الرحمن ، مصوّرين بصورة الروح الأعظم ، فإذا تمكن داود في العشق ، والمحبة ، والنبوة ، والرسالة ، والتخلٌّق ، صار أمرُه أمرَ الحق ، ونهيُه نهيَ الحق . هـ . وقال ابن عطية : لا يُطلق خليفة الله إلا لنبي ، وإطلاقه في غير الأنبياء تجوُّز وغلوٌّ . هـ . قلت : يُطلق عند الأولياء على مَن تحققت حريته ، ورسخت ولايته ، وظهر تصرفه في الوجود بالهمة ، حتى يكون أمره بأمر الله ، غالباً ، وهو مقام القطبانية ، فالمراتب ثلاث : صلاح ، وولاية ، وخلافة ، فالصلاح لِمن صلح ظاهره بالتقوى ، والولاية لِمن تحقق شهوده ، مع بقية من نفسه ، بحيث تقل عثراته جدًّا ، والخلافة لِمن تحققت حريته ، وظهرت عصمته ، بجذب العناية ، والله تعالى أعلم . وقوله تعالى : { ولا تتبع الهوى } ، الهوى : ما تهواه النفس ، وتميل إليه ، من الحظوظ الفانية ، قلبية كانت ، كحب الجاه ، والمال ، وكالميل في الحُكم عن صريح الحق ، أو : نفسانية ، كالتأنُّق في المآكل ، والمشارب ، والمناكح . واتباعُ الهوى : طلبُه ، والسعي في تحصيله ، فإن كان حراماً قدح في الإيمان ، وإن كان مباحاً قدح في نور مقام الإحسان ، فإن تَيسَّرَ من غير طلب وتشوُّف ، وكان موافقاً للسان الشرع ، جاز تناول الكفاية منه ، مع الشكر وشهود المنَّة . قال عمر بن عبد العزيز : إذا وافق الحقُّ الهوى ، كان كالزبد بالبرسَام ، أي : السكر . وفي الحِكَم : " لا يخاف أن تلتبس الطرق عليك ، إنما يخاف من غلبة الهوى عليك " وغلبة الهوى : قهره وسلطنته ، بحيث لا يملك نفسه عند هيجان شهوتها . وقوله تعالى : { وما خلقنا السماء والأرضَ وما بينهما باطلاً } أي : بل خلقناهما لنُعرف بهما ، فما نُصبت الكائنات لتراها ، بل لترى فيها مولاها . وقد تقدّم هذا مراراً . ولا ينال هذا المقام إلا بعبادة التفكُّر والتدبُّر ، كما أشار إلى ذلك بقوله : { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوۤاْ آيَاتِهِ } .