Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 38, Ayat: 29-29)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : " كتابٌ " : خبر عن مضمر ، أي : هذا ، و " أنزلناه " : صفة له ، و " مبارك " : خبر ثان ، أو : صفة الكتاب ، و " لِّيدبروا " : متعلق بأنزلناه . قيل : لمَّا نفى التسوية بين الصالح المتقِّي ، والمفسد الفاجر ، بيَّن ما تحصل به لمتبعيه السعادة الأبدية ، ويحصل به الصلاح التام ، والتقوى الكاملة . وهو كتاب الله فقال جلّ جلاله : { كتابٌ } وهو القرآن { أَنزلناه إليك مباركٌ } كثير المنافع الدينية والدنيوية ، أنزلناه { ليدَّبّروا آياته } أي : ليتفكروا في آياته ، التي من جملتها هذه الآيات المعربة عن أسرار التكوين والتشريع ، فيعرفوا ما في ظاهرها من المعاني الفائقة ، والتأويلات اللائقة . وقرى : { لتدبروا } على الخطاب ، أي : أنت وعلماء أمتك ، بحذف إحدى التاءين . { وليتذكَّر أولوا الألباب } أي : وليتّعِظ به ذوو العقول الصافية ، السليمة من الهوى ، فيقفوا على ما فيه ، ويعملوا به ، فإنَّ الكتب الإلهية ما نزلت إلا ليُتدبر ما فيها ، ويُعمَل به . وعن الحسن : قد قرأ هذا القرآن عبيدٌ وصبيان ، لا علم لهم بتأويله ، حفظوا حروفه وضيّعوا حدوده . هـ . الإشارة : كتاب الله العزيز بطاقة من عند الملك ، والمراد من البطاقة فَهْمُ ما فيها ، والعمل به ، لا قراءة حروفها ورسومها فقط ، فمَن فعل ذلك فهو مقصّر . وذكر في الإحياء أن آداب القراءة عشرة ، أي : الآداب الباطنية : الأول : فَهْمُ عظمة الكلام وعُلوّه ، وفضل الله سبحانه بخلقه ، في نزوله عن عرش جلاله ، إلى درجة أفهام خلقه ، فلولا استتار كُنه جلال كلام الله تعالى ، بكسوة الحروف ، لما ثبت لكلام الله عرش ولا ثرى ، ولَتَلاشى ما بينهما من عظمة سلطانه ، ولولا تثبيت الله موسى عليه السلام ما أطاق سماع كلامه ، كما لم يطق الجبل مبادر نوره . الثاني : تعظيم المتكلم به ، وهو الله سبحانه ، فيخطر في قلبه عظمة المتكلم ، ويعلم أن ما يقرأه ليس من كلام البشر ، وأن في تلاوة كتابه غاية الخطر ، ولهذا كان عكرمة إذا نشر المصحف غشي عليه . الثالث : حضور القلب ، وترك حديث النفس ، فإذا قرأ آية غافلاً أعادها . الرابع : التدبُّر ، وهو وراء الحضور ، فإنه قد لا يتفكّر في غير القرآن ، ولكنه مقتصر على سماع القرآن من نفسه وهو لا يتدبّره . قال عليٌّ رضي الله عنه : لا خير في عبادة لا فقه فيها ، ولا خير في قراءة لا تدبُّر فيها . الخامس : التفهُّم ، وهو أن يستوضح كل آية ما يليق بها إذ القرآن مشتمل على ذكر صفات الله تعالى ، وذكر أفعاله ، وذكر أحوال أنبيائه عليهم السلام ـ ، وذكر أحوال المكذّبين ، وكيف أُهلكوا ، وذكر أوامره وزواجره ، وذكر الجنة والنار ، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : " مَن أراد علم الأولين والآخرين فليثوّر القرآن " أي : فإنه مشتمل على فعل الله ، وصفاته ، وكشف أسرار ذاته ، لمَن تأمّله حق تأمله . السادس : التخلي عن موانع الفهم ، ومعظمها أربعة : أولها : صرف الهمة إلى إخراج الحروف من مخارجها ، وهذا تولى حفظه شيطان وُكل بالقراء . وكذلك الاشتغال بضبط رواياته ، فأنى تنكشف لهذا أسرار المعاني . ثانيها : أن يكون مقيَّداً بمذهب ، أخذه بالتقليد ، وجمد عليه ، فهذا شخص قيَّده معتقدُه ، فلا يمكن أن يخْطر بباله غير معتقده ، فلا يتبحَّر في معاني القرآن لأنه مقيّد بما جمد عليه . ثالثها : أن يكون مصرًّا على ذنب ، أو متصفاً بكبر ، أو : مبتلى بهوى في الدنيا ، وبهذا ابتلى كثير من الناس ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : { سَأَصْرِفُ عَنْ ءَايَاتِىَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فى الأَرْضِ } [ الأعراف : 146 ] أي : عن فهم آياتي . رابعها : أن يكون قد قرأ تفسيراً ظاهراً ، واعتقد أنه لا معنى لكلمات القرآن إلا ما يتناوله النقل عن ابن عباس وغيره ، وأمَّا ما وراء ذلك تفسير بالرأي ، فهذا أيضاً من أعظم الحُجب فإن القرآن العظيم له ظاهر وباطن ، وحدّ ومُطلع ، فالفهم فيه لا ينقطع إلى الأبد ، فهو بحر مبذول ، يغرف منه كل واحد على قدر وسعه ، إلى يوم القيامة . السابع : التخصيص ، وهو أن يعتقد أن المقصود بكل خطاب في القرآن ، فإن سمع أمراً أو نهياً ، قدر أنه المأمور والمنهي ، وكذلك إن سمع وعداً ووعيداً ، وإن سمع قصص الأولين عَلِمَ أن المقصود به الاعتبار ، ليأخذ من تضاعيفه ما يحتاج إليه ، ويتقوّى إيمانه ، قال تعالى : { وَكُّلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَآءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بشهِ فُؤَادَكَ } [ هود : 120 ] فالقرآن لم ينزل خاصّاً برسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل هو شفاء ورحمة ونور للعالمين ، فيثبت فؤاد كل مَن يسمعه . الثامن : التأثير ، وهو أن يتأثر قلبه بآثار مختلفة ، بحسب اختلاف الآيات ، فيكون له بحسب كل فهم حال ووجد ، يتصف به قلبه من الخوف ، والرجاء ، والقبض ، والبسط ، وغير ذلك . التاسع : الترقي وهو أن يترقى إلى أن يسمع الكلام من الله سبحانه ، لا من نفسه ، ولا من غيره . فدرجات القرآن ثلاث : أدناها : أن يُقدر العبد كأنه يقرأ على الله تعالى ، واقفاً بين يديه ، فيكون حاله السؤال والتملُّق . ثانيها : أن يشهد بقلبه كأن الله تعالى يُخاطبه بألفاظه ، ويُناجيه بإنعامه وإحسانه ، فمقامه الحياء والتعظيم . الثالثة : أن يرى في الكلام المتكلِّم ، فلا ينظر إلى نفسه ، ولا إلى قراءته ، بل يكون مقصور الهم على المتكلم ، مستغرقاً في شهوده ، وهذه درجة المقرَّبين ، وما قبلها درجة أصحاب اليمين ، وما خرج عن هذا فهو درجة الغافلين . وعن الدرجة العليا أخبر جعفر الصادق رضي الله عنه بقوله : والله لقد تجلّى الله لخلقه في كلامه ولكن لا يُبصرون . هـ . وقال بعض الحكماء : كنتُ أقرأ القرآن ولا أجد حلاوة ، حتى تلوته كأنه أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلوه على أصحابه ، ثم رُفعت إلى مقام ، كأني أسمعه من جبريل ، يلقيه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم جاء الله بمنزلة أخرى ، فأنا الآن أسمعه من المتكلِّم به ، فعندها وجدت له لذة ونعيماً لا أصبر عنه . العاشر : التبري ، وهو أن يتبرأ من حوله ، وقوته ، والالتفات إلى نفسه بعين الرضا . انظر بقية كلامه فقد اختصرناه غاية . ثم ذكر سليمان عليه السلام ، فقال : { وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ } .