Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 38, Ayat: 34-40)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جلّ جلاله : { ولقد فتنَّا سليمانَ } أي : ابتليناه ، { وألقينا على كرسيه } سرير ملكه ، { جسداً } شق ولد ، أو جِنياً ، { ثم أنابَ } رجع إلى الله تعالى ، وأظهر ما قيل في فتنته عليه السلام ما رُوي مرفوعاً : أنه قال : لأطُوفَنَّ الليلةَ على سبعين أو تسع وتسعين امرأةً ، تأتي كل واحدة منهن بفارس ، يُجاهد في سبيل الله ، ولم يقل " إن شاء الله " فطاف عليهنَّ ، فلم تحمل إلا امرأة واحدة ، جاءت بشقّ رجل . قال نبينا عليه الصلاة والسلام : " والذي نفسي بيده لو قال : إن شاء اللهُ ، لجاهدوا في سبيل الله فُرساناً أجمعون " فالفتنة على هذا : كونه لم يقل : " إن شاء الله " والجسد هو شق الإنسان الذي وُلد له . وقيل : إنه ولد له ابن ، فأجْمعَت الشياطين على قتله ، وقالوا : إن عاش له ولد لم ننفك من خدمته ، فلمَّا عَلِمَ ذلك ، حمله في السحاب ، فما شعر حتى ألقي على كرسيه جسداً ميتاً ، فتنبّه لخطئه ، حيث لم يتوكل على الله . وقيل : إنه غزا صيدون من الجزائر ، فقتل مَلِكها ، وأخذ بنتاً له تُسمى جرادة ، من أحسن الناس ، فاصطفاها لنفسه ، وأسلمت على جفاء ، وأحبها ، وكان لا يرقأ دَمْعها ، جزعاً على أبيها ، فأمر الشياطين فمثَّلوا لها صورته ، فكانت تغدو عليها وتروح مع ولائدها ، فيسجدْنَ لها ، كعادتهن في ملكه ، فأخبره صاحبه آصف بذلك ، فكسر الصورة ، وعاقب المرأة ، ثم خرج إلى فلاة ، وفُرش له الرماد ، وجلس عليه تائباً إلى الله متضرعاً . وكانت له أم ولد ، يقال لها : " أمينة " إذا دخل للطهارة ، أو لإصابة امرأة ، يعطيها خاتمه ، وكان فيها مُلكه ، فأعطاها يوماً ، فتمثّل لها بصورته شيطان ، اسمه " صخر " وأخذ الخاتم ، فتختّم به ، وجلس على كرسيه ، فاجتمع عليه الخلق ، ونفذ حكمه في كل شيء ، إلا في نسائه ، على المشهور ، وغُيرَ سليمان عن هيئته ، فأتى " أمينة " لطلب الخاتم ، فأنكرته وطردته ، فعلم أن الخطيئة قد أدركته ، فكان يطوف على البيوت يتكفف ، وإذا قال : أنا سليمان ، حثوا التراب عليه ، وسبُّوه ، ثم عمد إلى السمَّاكين ينقل لهم السمك ، فيُعطونه كل يوم سمكتين ، فمكث على ذلك أربعين صباحاً ، عدد ما عبد الوثن في بيته ، فأنكر آصف وعظماءُ بني إسرائيل حُكمَ الشيطان ، حتى دخلوا على نسائه ، فقالوا : قد أنكرنا حُكمه ، فذهبوا حتى جلسوا بين يديه ، فنشروا التوراة ، فقرؤوها ، فطار من بين أيديهم ، والخاتم معه ، ثم قذفه في البحر ، فابتلعته سمكة ، فوقعت في يد سليمان ، فبَقَر بطنها ، فإذا هو بالخاتم ، فتختّم به ، وخرّ ساجداً لله ، وعاد إليه مُلكه ، وقبض الجني " صخر " فجعله في وسط صخرة ، وشدّ عليه بأخرى ، ثم أوثقهما بالحديد والرصاص ، وقذفه في البحر ، فهو باق فيه . فالجسد على هذا عبارة عن " صخر " سمي به ، وهو جسم لا روح فيه لأنه تمثيل بما لم يكن كذلك ، والخطيئة : تغافُلُه عليه السلام عن حال أهله لأن اتخاذ التماثيل لم يكن محظوراً حينئذ ، والسجود للصورة بغير علم منه لا يضره . وأنكر بعض المحققين هذه القصة . وقال : لا يصح ما نقله الإخباريون وأهل التفسير في هذا الموضع ، من تشبُّه الشيطان بنبيه ، وتسلُّطه على ملكه ، وتصرُّفه في أمته والجور في حكمه . قال القاضي عياض : الشياطين لا يتسلطون على مثل هذا ، وقد عصم الله الأنبياء عن مثله . ومثله لابن العربي أيضاً . وحكى إنكاره عن السمرقندي . وقال الطيبي : أشبه الأقاويل في إلقاء الجسد هو شق الولد ، كما تقدّم . وخالفه ابن حجر ، فقال : قال غير واحد من المفسرين : أن المراد بالجسد المذكور شيطان ، وهو المعتمد ، فالله أعلم ، غير أن التنزيه أسلم . قال شيخُ شيوخنا الفاسي في حاشيته ، وليس هذه كقصة أيوب ، فيما يذكر أنه تسلّط الشيطان على إتلاف ماله وولده ، وضرره في جسده لأن ذلك إنما فيه تسلُّط على محض ضرر دنيوي لا ديني . وقد قال عليه الصلاة والسلام : " تفلت عليّ البارحة عفريتٌ … " الحديث . وكذا سُحر ، وسُمّ ، وشُجّ . والتسلُّط المذكور في حق سليمان ، فيه تلبيس في الدين فلا يصح ، إلا أن يقال : إنه لم يقر ، بل رُفع اللبس بعد ذلك ، كما في آية : { فَيَنسَخُ اللهُ مَا يُلْقِى الشَّيْطَانُ } [ الحج : 52 ] ، والله أعلم هـ . { قال ربِّ اغفر لي } ، هو بدل من " أناب " ، أي : اغفر لي ما صدر عني من الزلة ، { وهب لي مُلكاً لا ينبغي لأحد من بعدي } ، ليكون معجزةً لي ، مناسبة لحالي ، فإنه عليه السلام لمَّا نشأ في بيت الملك والنبوة ، وورثهما معاً ، استدعى من ربه معجزة جامعة لحكمهما . أو : لا ينبغي لأحد يسلبه مني بعد هذه السلبة ، أو : لا يصح لأحد من بعدي لعظمته وشدته . قال القشيري : ويُقال : لا ينبغي لأحد من بعدي أن يسأل المُلْك ، بل يجب أن يَكِلَ أمرَه إلى الله ومثله للجنيد ، وزاد : فإن المُلْكَ شُغل عن المالك أو يقال : لا ينبغي لأحدٍ من بعدي من الملوك ، لا من الأنبياء ، وإنما سأل المُلكَ لسياسة الناس ، وإنصافِ بعضهم من بعض ، والقيام بحقِّ الله ، ولم يسأله لأجل مَيْلِه إلى الدنيا . وهو كما قال يوسف عليه السلام : { اجْعَلْنِى عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ … } [ يوسف : 55 ] . ثم قال : عَلِمَ أن نبينا عليه الصلاة والسلام لا يلاحِظَ الدنيا ، ولا يملكها ، تحقيراً لها فقال : { لا ينبغي لأحد من بعدي } لا لأنه بَخِلَ به عليه ، ولكن لِعِلْمِه أنه لا ينظر إلى ذلك . هـ . هذا ، وقد يُقال : إن قوله : { وهب لي مُلْكاً } قد جرى على لسانه ، كما هو حال النطق بالله من أهل الله ، ولذلك كان الأمر كذلك ، ولم يزاحمه أحد ، كقول الخليل : { وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً } [ البقرة : 129 ] ، لما جرى به القضاء أنطقه الله بما سيكون . وتقديم الاستغفار على الاستيهاب لمزيد اهتمامه بأمر الدين ، جرياً على سنَن الأنبياء والصالحين ، وكون ذلك أدخل في الإجابة . { إِنك أنت الوهابُ } تعليل للدعاء بالهبة والمغفرة معاً ، فإن المغفرة من أحكام وصف الوهَّابية قطعاً ، { فسخَّرنا له الريحَ } فذللناها لطاعته ، إجابة لدعوته ، فعاد أمره عليه السلام إلى ما كان عليه قبل الفتنة ، قيل : فتن سليمان بعدما ملك عشرين ، وملك بعد الفتنة عشرين ، فسخرت له الريح { تجري بأمره } بيان لتسخيرها ، { رُخَاءً } أي : لينة ، من الرخاوة ، أو : طيبة لا تزعج ، وهذا بعد أن تُقِلّ السرير من الأرض الإعصارُ ، فإذا صار في الهواء حملته الرخاء الطيبة ، { حيث أصابَ } أي : قصد وشاء ، بلغة حمير . تقول العرب : أصاب الصواب فأخطأ الجواب ، أي : أراد الصواب فأخطأ . قال الشاعر : @ أصَابَ الْكَلاَمَ فَلَمْ يَستَطِعْ فأَخْطَا الجَوابَ لَدَى المِفْصَلِ @@ { و } سخرنا له { الشياطينَ كلَّ بناءٍ وغَوَّاصٍ } : بدل من " الشياطين " . فكانوا يبنون له ما يشاء ، ويغوصون له في البحر لاستخراج اللآلىء ، وهو أول مَن استخرج اللؤلؤ من البحر ، وسخّرنا له كلَّ بنّاء وغوّاص من الشياطين ، { وآخرين مقرَّنِينَ في الأصفاد } فكان يقرن مردة الشياطين ، بعضهم مع بعض ، في القيود والسلاسل ، للتأديب والكف عن العباد . والصفد : القيد ، وقد يسمى العطاء بالصفد لأنه ارتباط للمنعَّم عليه في يد المنعِم . ومنه قول عليّ رضي الله عنه : مَن برَّك فقد أسرك ، ومَن جفاك فقد أطلقك ، ومن هذا كانت الصوفية يهربون من خير الناس ، أكثر مما يهربون من شرهم . قال الشيخ عبد السلام بن مشيش لأبي الحسن الشاذلي رضي الله عنهما : يا أبا الحسن اهرب من خير الناس ، أكثر ما تهرب من شرهم ، فإنَّ خيرهم يُصيبك في قلبك ، وشرهم يُصيبك في بدنك ، ولئن تُصاب في بدنك خير من أن تصاب في قلبك ، ولعدو تصل به إلى ربك خير من حبيب يقطعك عن ربك . هـ . { هذا عطاؤنا } ، هو حكاية لما خُوطب به سليمان من قِبَل الحق تعالى ، أي : وقلنا له هذا الذي أعطيناك من المُلك العظيم ، والسلطنة ، والتسلُّط على ما لم يُسلط عليه غيرُك ، هو عطاؤنا الخاص بك ، { فامْنُنْ أو أَمْسِكْ } أي : أعطِ مَن شئت ، وامنع مَن شئت ، { بغير حسابٍ } أي : غير محاسَب على منِّه ومنعه لتفويض التصرُّف فيه إليك ، فكان إذا أعطى أُجر ، وإذا منع لم يأثم ، بخلاف غيره . قال الحسن : إن الله لم يعطِ أحداً عطية إلا جعل فيها حساباً ، إلا سليمان ، فإن الله أعطاه عطاءً هيناً . وهذا مما خُصّ به سليمان عليه السلام ، وأما غيره ، فيؤخر على بذله ، ويُعاقب على منعه من حقه ، و { بغير حساب } : قيل : متعلق بعطاؤنا ، وقيل : حال من المستكن في الأمر ، أي : هذا عطاؤنا جمّاً كثيراً ، لا يكاد يقدر على حصره ، أو : هذا التسخير عطاؤنا فامنن على مَن شئت من الشياطين بالإطلاق ، أو : أمسك مَن شئت منهم في الوثاق ، لا حساب عليك في ذلك . { وإِنَّ له عندنا لزُلفى } لقُربى في الآخرة ، مع ما له في الدنيا من الملك العظيم ، { وحُسنَ مآب } مرجع ، وهي الجنة . وزُلفى : اسم إن ، و " له " : خبر ، و " عند " : متعلق بالاستقرار . رُوي أن سليمان عليه السلام لما ورث مُلك أبيه ، سار من الشام إلى العراق ، فبلغ خبره كسرى ، فهرب إلى خراسان ، فلم يلبث حتى هلك . ثم سار سليمان عليه السلام إلى مرو ، ثم إلى بلاد الترك ، فأوغل فيها ، ثم جاز بلاد الصين ، ثم عطف إلى أن وافى بلد فارس ، فنزلها أياماً ، ثم عاد إلى الشام ، فأمر ببناء بيت المقدس ، فلما فرغ منه سار إلى تهامة ، ثم إلى صنعاء ، وكان من حديثه مع صاحبتها ما ذكر الله ، وغزا بلاد المغرب الأندلس وطنجة وغيرهما . انظر أبا السعود . والله تعالى أعلم . الإشارة : ما أعطى اللهُ عبداً مُكنةً إلا بعد محنة ، ولا رفع مقاماً إلا بعد ابتلاء ، إما في البدن والمال ، وإما في الدين ، إنْ صَحِبه رجوع وانكسار . كأنّ الله تعالى إذا أراد أن يرفع عبداً أهبطه إلى أرض قهرية العبودية ، ثم يرفعه إلى مشاهدة عظمة الربوبية ، ثم يملكه الوجود بأسره ، يتصرف فيه بهمّته كيف شاء . ولذلك قيل في معصية آدم : نعمت المعصية أورثت الخلافة . وشاهده حديث : " أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي " ومَن كان الله عنده ، ماذا يفوته ؟ وقوله تعالى : { وهَبْ لي مُلكاً … } الخ ، قال القشيري : لم يطلب المُلكَ الظَاهر ، وإنما أراد به أن يَمْلِكَ نَفْسَه ، فإن المَلِكَ على الحقيقة مَن ملَك نفسَه ، فمَن مَلِكَها لم يَتَّبعْ هواه ، أي : فيكون حرّاً ، فيملكه الله التصرُّف في الوجود . ثم قال : ويُقال أراد به كمالَ حاله في شهود ربه ، حتى لا يَرى معه غيرَه ، ويقال : سأل القناعةَ التي لا يبقى معها اختيار . هـ . وقوله تعالى : { هذا عطاؤنا فامنُنْ أو أَمسك بغير حساب } ، هو عند الأولياء ليس خاصّاً بسليمان ، فكل مَن تمكَّن مع الله التمكُّن الكبير يُفوض إليه الأمر ، ويقال : افعل ما شئت ، وشاهده : حديث أهل بدر . وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه : يبلغ الوليّ مبلغاً يُقال له : أصحبناك السلامة ، وأسقطنا عنك الملامة ، فاصنع ما شئت . ثم استشهد بالآية في حق سليمان ، هذا ، وإن كان للنبي من أجل العصمة ، فلِمن كان من الأولياء في مقام الإمامة قسط منه ، من أجل الحفظة . ثم ذكر أيوب عليه السلام ، فقال : { وَٱذْكُرْ عَبْدَنَآ أَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ } .