Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 38, Ayat: 71-85)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : { إذ قال } : متعلق بيختصمون ، أو : بدل من { إذ } قبله ، أو : باذكر . و " الحق " : فمن نصبه ، فعلى حذف فعل القسم ، كقولك : الله لأفعلن ، أي : أقسم بالحق ، فحذفت الباء ووصل الفعل به ، ومن رفعه فمبتدأ ، أي : الحقُّ مني ، أو : خبر ، أي : أنا الحق . والحق الثاني : مفعول " أقول " ، والجملة : معترضة بين القسم وجوابه ، وهو : { لأملأن } . يقول الحق جلّ جلاله في تفسير الاختصام المذكور : { إِذ قال ربُّكَ للملائكة } حين أراد خلق آدم ، { إِني خالق بشراً من طينٍ } ، وقال : { إِنِّى جَاعِلٌ فِى الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا } [ البقرة : 30 ] . والتعرُّض لعنوان الربوبية ، مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام لتشريفه صلى الله عليه وسلم ، والإيذان بأنَّ وحي هذا النبأ إليه تربية وتأييد له . والكاف وارد باعتبار حال الآمر ، لكونه أدلّ على كونه وحياً منزلاً من عنده تعالى ، كما في قوله تعالى : { … يَا عِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ … } [ الزمر : 54 ] الخ ، دون حال المأمور ، وإلاَّ لقال : ربي لأنه داخل في حيز الأمر . { فإِذا سوَّيتُه } أي : صوَّرْتُه بالصورة الإنسانية ، والخلقة البشرية ، أو : سويت أجزاء بدنه ، بتعديل أعضائه ، { ونَفَخْتُ فيه من روحي } الذي خلقته قبلُ ، وأضافه إليه تخصيصاً ، كبيت الله ، وناقة الله . والروح سر من أسرار الله ، لطيفة ربانية ، سارية في كثيفة ظلمانية ، فإذا سرت فيه حيى بإذن الله ، أي : فإذا أحييته { فَقَعُوا } أي : اسقطوا { له } ، وهو أمر ، مِن وقع ، { ساجدين } قيل : كان انحناء يدلّ على التواضع ، وقيل : كان سجوداً لله ، أو سجود تحية لآدم وتكريماً له . { فسجد الملائكةُ كلُّهم أجمعون } ، " كلّ " للإحاطة ، و " أجمعون " للاجتماع ، فأفاد أنهم سجدوا عن آخرهم جميعاً ، في قوت واحد ، غير متفرقين في أوقات . وظاهر هذه الآية وما في سورة الحِجْر : { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ } [ الحجر : 29 ، 30 ] أن الأمر بالسجود كان تعليقياً ، لا تنجيزياً ، فأمرهم بالسجود قبل أن يخلقه ، بل حين أعلمهم بخلقه ، فلما خلقه سجدوا ممتثلين للأمر الأول ، وظاهر ما في البقرة والأعراف والإسراء والكهف : أن الأمر كان تنجيزياً بعد خلقه ، والجمع بينهما : أنه وقع قبل وبعد ، أو : اكتفى بالتعليقي ، كما يقتضيه الحديث ، حيث قال له بعد نفح الروح فيه : " اذهب فسلِّم على أولئك الملائكة ، فسلّم عليهم ، فردُّوا عليه وسجدوا له " والله تعالى أعلم بغيبه . { إِلا إِبليسَ استكْبَرَ } أي : تعاظم عن السجود ، والاستثناء متصل إن قلنا : كان منهم ، حيث عبد عبادتهم ، واتصف بصفاتهم ، مع كونه جنياً ، أو : منقطع ، أي : لكن إبليس استكبر ، { وكان من الكافرين } أي : صار منهم بمخالفته للأمر ، واستكباره عن الطاعة ، أو : كان منهم في علم الله . { قال يا إبليسُ ما منعك أن تسجدَ } أي : عن السجود { لِما خلقتُ بيديَّ } ، بلا واسطة أب ولا أم ، امتثالاً لأمري ، وإعظاماً لخطابي ، ولَمَّا كانت الأعمال تُباشر في الغالب باليد ، أطلقت على القدرة . والتثنية لإبراز كمال الاعتناء بخلقه عليه السلام ، المستدعي لإجلاله وإعظامه ، قصداً إلى تأكيد الإنكار ، وتشديد التوبيخ ، وسيأتي في الإشارة بقية الكلام في سر التثنية . قال له تعالى : { أَسْتَكْبَرْتَ } ، بهمزة الاستفهام ، وطرح همزة الوصل ، أي : أتكبرت من غير استحقاق ، { أم كنت من العالين } المستحقين للتفوُّق ، أو : أستكبرت عن السجود ولم تكن قبل ذلك من المتكبرين ، أم كنت قبل ذلك من المتكبرين على ربك ؟ { قال أنا خير منه } ، ولا يليق أن يسجد الفاضل للمفضول ، كقوله : { لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } [ الحجر : 30 ] ، وبيَّن فضيلته في زعمه بقوله : { خلقتني من نارٍ وخلقته من طينٍ } ، يعني لو كان مخلوقاً من نار لَمَا سجدتُ له لأنه مخلوق مثلي ، فكيف أسجد لمَن هو دوني لأنه طين ، والنار تغلب الطين وتأكله ، ولقد أخطأ اللعين ، حين خَصَّ الفضل بما من جهة المادة والعنصر ، وغاب عنه ما من جهة الفاعل ، كما أنبأ عنه قوله تعالى : { لِما خلقتُ بيدي } ، وما من جهة الصورة كما نبّه عليه قوله تعالى : { ونفخت فيه من روحي } ، وما من جهة الغاية ، وهو ما خصَّه به من علوم الحكمة ، التي ظهرت بها مزيته على الملائكة ، حتى أُمروا بالسجود ، لما ظهر أنه أعلم منهم بما تدور عليه أمر الخلافة في الأرض ، وأن له خواص ليست لغيره . { قال فاخرجْ منها } من الجنة ، أو : من زمرة الملائكة ، وهو المراد بالأمر بالهبوط ، أو : من السموات ، أو : من الخِلقة التي أنت فيها ، وانسلخ منها ، فإنه كان يفتخر بخلقته ، فغيّر الله خلقته ، فاسودّ بعدما كان أبيض ، وقبح بعدما كان حسناً ، وأظلم بعدما كان نورانياً . { فإِنك رجيم } أي : مرجوم ، مطرود ، من كل خير وكرامة . أو : شيطان يُرجم بالشُهب . { وإِن عليك لعنتي } إبعادي من الرحمة ، وتقييدها هنا ، وإطلاقها في قوله : { وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ } [ الحجر : 35 ] لأن لعنة اللاعنين من الثقلين والملائكة أيضاً من جهته تعالى ، وأنهم يدعون عليه بلعنة الله وإبعاده من الرحمة ، { إِلى يوم الدين } إلى يوم الجزاء والعقوبة ، ولا يُظَن أن لعنته غايتها يوم الدين ، ثم تنقطع ، بل في الدنيا اللعنة وحدها ، ويوم القيامة يقترن بها العذاب ، فيلقى يومئذ من ألوان العذاب ، وأفانين العقاب ، ما ينسى به اللعنة ، وتصير عنده كالزائد . أو : لَمَّا كان عليه اللعنة في أوان الرحمة ، فأولى أن يكون عليه اللعنة في غير أوانها ، وكيف ينقطع ، وقد قال تعالى : { فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ } [ الأعراف : 44 ] وهو إمامُهم ؟ { قال } إبليسُ : { رَبِّ فأَنظِرْنِي } أمهلني وأخِّرني ، أي : إذا جعلتني رجيماً فأمهلني ولا تمتني ، { إِلى يوم يبعثون } أي : آدم وذريته للجزاء بعد فنائهم . وأراد بذلك فسْحته لإغوائهم ، وليأخذ منهم ثأره ، وينجو من الموت بالكلية إذ لا موت بعد البعث ، { قال } تعالى : { فإِنك من المنظرين إلى يوم الوقتِ المعلوم } ، وهو وقت النفخة الأولى ، ومعنى " معلوم " أنه معلوم عند الله ، لا يتقدم ولا يتأخر ، وورود الجواب بالجملة الاسمية مع التعرُّض لشمول ما سأله لآخرين ، على وجهٍ يُشعر بكون السائل تبعاً لهم في ذلك ، دليل واضح على أنه إخبار بالإنظار المقدر لهم أزلاً ، لا إنشاء لإنظار خاص به ، قد وقع إجابة لدعائه ، أي : إنك من جملة الذين أخرت آجالهم أزلاً ، حسبما تقتضيه حكمة التكوين . { قال فبعزَّتك لأُغْوِينَّهم أجمعين } ، أقسم بعزّة الله ، وهو سلطانه وقهره على إغواء بني آدم ، بتزيين المعاصي والكفر ، { إِلا عبادَكَ منهم المخلصِين } ، وهم الذين أخلصهم الله للإيمان به وطاعته ، وعصمهم من الغواية ، أو : الذين أخلصوا قلوبهم وأعمالهم لله في قراءة الكسر . { قال } تعالى : { فالحقّ والحقَّ أقولُ } أي : أقسم بالحق ولا أقول إلا الحق ، أو : الحق قسَمي وأقول الحق : { لأملأَنَّ جهنمَ منك } من جنسك ، وهم الشياطين ، { وممن تَبِعَكَ منهم } من ذرية آدم { أجمعين } أي : لأعمرنَّ جهنم من المتبوعين والتابعين أجمعين ، لا أترك منهم أحداً . الإشارة : التجلي بهذا الهيكل الآدمي فاق جميع التجليات ، وصورته البديعة فاقت جميع الصور ، ولذلك لم يقل الحق تعالى في شيء أنه خلقه في أحسن تقويم إلا الآدمي ، وذلك لأنه اجتمع فيه الضدان ، واعتدل فيه الأمران الظلمة والنور ، الحس والمعنى ، الروحانية والبشرية ، القدرة والحكمة . ولذلك قال تعالى فيه : { لِما خلقت بيدي } ، ولم يقله في غيره ، أي : خلقته بيد القدرة ويد الحكمة . فالقدرة كناية عما في باطنه من أسرار المعاني الإلهية ، والحكمة عبارة عما في قالَبه من عجائب التصوير ، وغرائب التركيب ، ولذلك كانت معرفته أتم ، وترقِّيه لا ينقطع ، إن كان من أهله ، وراجع ما تقدّم في قوله تعالى : { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءَادَمَ } [ الإسراء : 70 ] . وقال القشيري بعد كلام : فسبحان الله ! خلق أعَزَّ خَلْقِه من أذّلِّ شيءٍ وأَخَسِّه . ثم قال : ما أودع عند آدم لم يوجد عند غيره ، فيه ظهرت الخصوصية . هـ . ثم نزّه نبيه عن الطمع في الأجر على التبليغ و التكلُّف ، فقال : { قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ } .