Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 39, Ayat: 53-54)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله : { قل } يا محمد { يا عباديَ الذين أسرفوا على أنفسهم } أي : أفرطوا في الجناية عليها ، بالإسراف في المعاصي ، والغلو فيها ، { لا تقنطوا من رحمة الله } : لا تيأسوا من مغفرته أولاً ، وتفضُّله بالرحمة ثانياً ، { إِن الله يغفرُ الذنوبَ جميعاً } ، بالعفو عنها ، إلا الشرك . وفي قراءة النبي صلى الله عليه وسلم : " يغفر الذنوب جميعاً ولا يُبالي " لكنها لم تتواتر عنه . والمغفرة تصدق بعد التعذيب وقبله ، وتقييده بالتوبة خلاف الظاهر ، كيف ، وقوله تعالى : { إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 48 ] ظاهر في الإطلاق مما عدا الشرك ؟ وَلِمَا يدل عليه التعليل بقوله : { إِنه هو الغفور الرحيم } على المبالغة ، وإفادة الحصر ، والوعد بالرحمة بعد المغفرة . وما في { عبادي } من الدلالة على الذلة والاختصاص ، المقتضييْن للترحُّم . { إِنه هو الغفورُ } يستر عظام الذنوب { الرحيمُ } يكشف فظائع الكروب . والآية ، وإن نزلت في " وحشي " ، قاتل " حمزة " ، أو في غيره ، لا تقتضي التخصيص بهم ، فإن أسباب النزول لا تخصص . وعن النبي صلى الله عليه وسلم : " ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية " . ولما نزلت في شأن وحشي ، وأسلم ، قال المسلمون : هذه له خاصة ، أو للمسلمين عامة ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " بل هي للمسلمين عامة " وقال قتادة إن ناساً أصابوا ذنوباً عظاماً ، فلما جاء الإسلام أشفقوا ألا يتاب عليهم ، فدعاهم الله تعالى بهذه الآية . وقال ابن عمر : نزلت هذه الآيات في عياش بن أبي ربيعة ، والوليد بن الوليد ، ونفر كانوا قد أسلموا ثم فُتنوا ، فكنا نقول : لا يقبل الله منهم صرفاً ولا عدلاً ، فنزلت الآية ، وكان عمر بن الخطاب كاتباً ، فكتبها بيده ، ثم بعث بها إلى عياش بن أبي ربيعة والوليد ، وإلى أولئك النفر ، فأسلموا ، وهاجروا . قال علي رضي الله عنه : " ما في القرآن آية أوسع من هذه الآية " . فما يُقنط الناس ويشدد عليهم بعد هذه الآية إلا جهول ، أو جامد ، قال زيد بن أسلم : إنَّ رجلاً كان في الأمم الماضية مجتهداً في العبادة ، فيشدد على نفسه ، ويقنط الناس من رحمة الله ، فمات ، فقال : أيّ ربّ ما لي عندك ؟ فقال : النار . فقال : يا رب أين عبادتي ؟ فقال : إنك كنت تُقنط الناس من رحمتي في الدنيا ، فاليوم أقنطك من رحمتي . وعن عليّ كرّم الله وجهه قال : الفقيه كل الفقيه الذي لا يقنط الناس من رحمة الله ، ولا يؤمنهم من عذاب الله ، ولا يرخص لهم في معاصي الله . هـ . ثم حضَّ على التوبة لتتحقق المغفرة ، فقال : { وأَنِيبوا إِلى ربكم } أي : ارجعوا إليه بالتوبة والإخلاص . فالإنابة أخص من التوبة لأن التوبة : مطلق الندم على الزلة ، والإنابة : تحقيق التوبة والنهوض إلى الله بإخلاص التوجه . قال صلى الله عليه وسلم : " من السعادة أن يطول عمر الرجل ويرزقه الله الإنابة " قال القشيري : وقيل الفرق بين الإنابة والتوبة : أن التائب يرجع خوفاً من العقوبة ، والمنيب يرجع حياءً منه تعالى . هـ . والأمر بالتوبة لا يدل على تقييد المغفرة في الآية بها ، كما تقدّم إذ ليس المدعَى : أن الآية تدل على حصول المغفرة لكل أحد من غير توبة وسبْق تعذيب ، حتى يغني عن الأمر بها ، وإنما المراد : الإخبار بسعة غفرانه ، سواء كان مع التوبة أم لا . قال ابن عرفة : واعلم أن التوبة من الكفر مقطوع بها ، ومن المعاصي ، قيل : مظنونة ، وقيل : مقطوع بها ، هذا في الجملة ، وأما في التعيين ، كتوبة زيد بن عَمْرو ، فلا خلاف أنها مظنونة . هـ . قلت : قد اقترن بتوبة زيد من الأخبار ما يقطع بصحتها . ثم قال : وأما العاصي إذا لم يتب فهو في المشيئة ، مع تغليب جانب الخوف والعقوبة ، واعتقاد أن العذاب أرجح ، وأما العصيان بالقتل ، ففيه خلاف بين أهل السُّنة ، فقيل : يخلد في النار ، وقيل : في المشيئة . هـ . وقال أبو الحجاج الضرير رحمه الله : @ وتوبةُ الكافرِ تمحُو اِثْمَه لا خلافَ فيه بين الأُمَّهْ وتوبةُ العاصي على الإِرجاءِ وقيلَ كالأول بالسواءِ إذ لا يكونُ دونه في الحالِ وَهُوَ عندي أحسنُ الأقوالِ دليلُه : تتابعُ الظواهِرْ شاملةٌ مسلمٌ وكافرْ @@ { وأَسْلِمُوا له } أي : اخضعوا له ، وانقادوا لأمره . قال القشيري : أي : أَخلصوا في طاعتكم ، والإسلامُ الذي هو الإخلاص بعد الإنابة ـ : هو أن يعلم نجاته بفضلِه ، لا بإنابته فبفضله يصل إلى إثابته ، لا بإنابته يصل إلى فضله . هـ . { من قبل أن يأتيكم العذابُ } في الدنيا ، أو في الآخرة ، إن لم تتوبوا قبل نزول العقاب . قال القشيري : العذاب هنا ، قيل : الفراق ، وقيل : هو أن يفوتَه وقت الرجوعِ بسوء الإياس . هـ . { ثم لا تُنصرون } : لا تُمنعون منه أبداً . الإشارة : لا يعظم عندك الذنب عظمة تصدك عن حسن الظن بالله ، فإن مَن استحضر عظمة ربه صغر في عينه كل شيء . وتذكر قضية الرجل الذي قتل تسعاً وتسعين نفساً ، ثم سأل راهباً : هل له توبة ؟ فقال : لا ، فكمل به المائة ، ثم سأل عارفاً ، فقال له : ومَن يحول بينك وبينها ؟ لكن اخرج من القرية التي كنت تعصي فيها ، واذهب إلى قوم يعبدون الله في مكان ، فذهب ، فأدركه الموت في الطريق ، فلما أحسّ بالموت انحاز بصدره إلى القرية التي قصدها ، ثم مات ، فاختصمت فيه ملائكة العذاب وملائكة الرحمة فقال لهم الحق تعالى : قيسوا من القرية التي خرج منها ، إلى القرية التي قصدها ، فإلى أيهما هو أقرب هو منها ؟ فوجدوه أقرب إلى القرية التي قصدها بشبر ، فأخذته ملائكة الرحمة . إلى غير ذلك من الحكايات التي لا تحصى في هذا المعنى . وتأمل قضية الشاب الذي أتى النبي صلى الله عليه وسلم يبكي ، فقال : " ما يبكيك ؟ قال : ذنوبي . فقال له عليه السلام : إن الله يغفر ذنوبك ، ولو كانت مثل السماوات السبع ، والأرضين السبع ، والجبال الرواسي ، فقال : يا رسول الله ، ذنب من ذنوبي أعظم من السماوات السبع والأرضين السبع ، فقال له : ذنوبك أعظم أو العرش ؟ قال : ذنوبي ، فقال له : ذنوبك أعظم أو الكرسي ؟ قال : ذنوبي ، فقال : ذنوبك أعظم أو إلهك ؟ فقال : الله أعظم ، فقال : فأخبرني عن ذنبك . قال : إني أستحيي ، فقال : فأخبرني ، فقال : إني كنت نبّاشاً أنبش القبور منذ سبع سنين ، حتى ماتت جارية من بنات الأنصار ، فنبشتها ، وأخرجتها من كفنها ، فمضيت ، ثم غلبني الشيطان ، فرجعت ، فجامعتها ، فقامت الجارية ، وقالت : الويل لك يا شاب من دَيّان يوم الدين ، يوم يضع كرسيه للقضاء ، يأخذ من الظالم للمظلوم ، تركتني عريانة في عساكر الموتى ، وأوقفتني جُنباً بين يدي الله ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم وهو يضرب في قفاه ، وهو يقول : يا فاسق ، اخرج ، ما أقربك من النار ، فخرج الشاب تائباً إلى الله تعالى ، حتى أتى عليه ما شاء الله ، ثم قال : يا إله محمد وآدم وحواء ، إن كنت غفرت لي فأَعْلِم محمداً وأصحابه ، وإلا فأرسل عليَّ ناراً من السماء فأحرقني بها ، ونجِّني من عذاب الآخرة ، فجاء جبريل : فقال : السلام يقرئك السلام ، فقال : هو السلام وإليه يعود السلام ، قال : يقول أأنت خلقت خلقي ؟ قال : بل هو الذي خلقهم . قال : يقول : ترزقهم ؟ قال : بل هو الذي يرزقهم ، قال : يقول : أأنت تتوب عليهم ؟ قال : بل هو الذي يتوب عليهم . قال : فتب على عبدي ، فإني تبتُ عليه ، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الشاب ، وتاب عليه ، وقال : إن الله هو التوّاب الرحيم " هـ . ذكره السمرقندي والثعلبي . ثم أمر باتباع القرآن بعد الإنابة ، فقال : { وَٱتَّبِعُـوۤاْ أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُـمْ } .