Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 39, Ayat: 55-59)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله : { واتَّبِعُوا أحسنَ ما أُنزل إليكم من ربكم } أي : القرآن ، فإنه أحسن الحديث ، ولا أحسن منه لفظاً ومعنى ، أو : المأمور به دون المنهي ، أو : العزائم دون الرُخص ، كقوله : { الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } [ الزمر : 18 ] ، أو : الناسخ دون المنسوخ ، ولعله ما هو أعم ، فيصدق بكل ما يقرب إلى الله ، كالإنابة ، والطاعة ، ونحوهما ، { من قبل أن يأتيكم العذابُ بغتةً } : فجأة ، { وأنتم لا تشعرون } بمجيئه لتداركوا وتتأهبوا . أمرتكم بذلك كراهة { أن تقول نفس } ، والتنكير للتكثير ، كما في قوله : { عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّآ أَحْضَرَتْ } [ التكوير : 14 ] ، أو : يراد به بعض الأنفس ، وهي نفس الكافر ، أو : يُراد نفس متميزة إما بلجاج في الكفر شديد أو بعقاب عظيم : { يا حسرتا } ، بألف بدل من ياء الإضافة لأن العرب تقلب ياء المتكلم ألفاً في الاستغاثة ، فيقولون : يا ويلتا ، يا ندامتا ، فيخرجون ذلك على لفظ الدعاء ، وربما ألحَقوا بها الهاء ، فيقال : يا رباهُ ، يا مولاهُ ، وربما ألحقوا ياء المتكلم ، جمعاً بين العوض والمعوض ، وبذلك قرأ أبو جعفر : " يا حسرتاي " أي : يا ندامتاه ويا حزناه . { على ما فَرَّطتُ } : قصَّرت . و " ما " : مصدرية ، أي : على تقصيري وتفريطي { في جَنبِ اللهِ } أي : جانبه وحقه وطاعته ، أو : في ذاته ، أي : معرفة ذاته ، أو في قربه ، من قوله : { وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ } [ النساء : 36 ] ، أو : في سبيل الله ودينه ، والعرب تسمي السبب الموصل إلى الشيء جنباً ، تقول : تجرّعت في جنبك غُصَصاً ، أي : لأجلك ، أو : في الجانب الذي يؤدي إلى رضوانه ، وهو توحيده والإقرار بنبوة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم . وقرىء " في ذكر الله " . { وإِن كُنتُ لمن الساخرين } أي : المستهزئين بدين الله . قال قتادة : لم يكفهِ أن ضيّع طاعة الله حتى سخر بأهلها . و " إن " : مخففة ، والجملة : حالية ، أي : فرطت وأنا ساخر . { أَوْ تقولَ لو أنَّ الله هداني } : أعطاني الهداية ، { لكنتُ من المتقين } : من الذين يتقون الشرك . قال الإمام أبو منصور : هذا الكافر أعرفُ بهداية الله من المعتزلة . وكذلك أولئك الكفرة ، الذين قالوا لأتباعهم : { لَّوْ هَدَانَا اللهُ لَهَدَيْنَاكُمْ } [ إبراهيم : 21 ] يقولون : لو وفقنا الله للهداية ، وأعطانا الهدى لدعوناكم إليه ، ولكن عَلِمَ منا اختيار الضلالة والغواية فخذلنا ولم يوفقنا . والمعتزلة يقولون : بل هداهم وأعطاهم التوفيق لكنهم لم يهتدوا . انظر النسفي . { أو تقولَ حين ترى العذابَ لو أن لي كرةً } أي : رجعة للدنيا ، { فأكونَ من المحسنين } : الموحِّدين الطائعين . و " أو " للدلالة على أنها لا تخلو من هذه الأقوال ، تحيُّراً وتحسُّراً ، وتعليلاً بما لا طائل تحته . فردَّ الله عليهم بقوله : { بلى قد جاءتك آياتي فكذَّبتَ بها واستكبرتَ وكنتَ من الكافرين } أي : قد جاءتك آياتي ، وبيّنت لك الهدايةَ من الغواية ، وسبيلَ الحق من الباطل ، فتركت ذلك ، وضيعت ، واستكبرت عن قبوله ، وآثرت الضلالة على الهدى ، واشتغلت بضد ما أمرت به ، وإنما جاء التضييع من قِبلك ، فلا عذر لك . و " بلى " : جواب لنفي مقدر ، وهو نتيجة القياس الاستثنائي ، أي : لو أن الله هداني لاهتديتُ وكنت متقياً ، لكنه لم يهدني ، وإنما أخّره لأنه لا بد من حكاية أقوال النفس عى ترتيبها ، ثم يذكر الجواب في الجملة . والله تعالى أعلم . الإشارة : واتبعوا أحسن ما أُنزل إليكم ، أي : خذوا في الجد والاجتهاد في اتباع الأحسن والأرجح ، في الأفعال ، والأقوال ، والعقائد ، من قبل أن ينزل بكم العذاب . ولا عذاب أشد من الحجاب ، والتخلُّف عن مقامات الأحباب ، في وقت لا ينفع التأسُّف ولا التحسُّر . قال القشيري : هذا في أقوامٍ يَرَوْن أمثالَهم وأشكالهم ، تقدّموا عليهم في أحوالهم ، فشكوا ما سَلَفَ من تقصيرهم ، ويَرَوْن ما وُفِّقَ أولئك إليه من أعالي الرتب ، فيعضُّون بنواجذ الحسرة على أنامل الخيبة . هـ . وفي ذلك قيل وأنشد : @ السِّباق السِّبَاقَ قَوْلاً وفِعلاً حَذِرِ النفسَ حَسْرَةَ المسْبُوقِ @@ وهو معنى قوله : { أن تقول نفس } كانت مُقصِّرة في الدنيا : { يا حسرتا على ما فرطتُ في جنب الله } أي : في السير إلى معرفة ذاته ، { وإِن كنت لمن الساخرين } ممن يتعاطى ذلك ، ويخرب ظاهره لتعمير باطنه ، فكنت أسخر منه وأضحك عليه ، أو تحتج بالقدر ، فتقول : لو أن الله هداني لسلوك طريقه لكنت من المتقين الكاملين في التقوى . ولا ينفع الاحتجاج بالقدر في دار التكليف مع بيان الطريق . أو تقول حين ترى العذاب ، وهو فراق الأحباب والتخلُّف عنهم : لو أن لي كرة إلى الدنيا ، فأجهد نفسي حتى أكون من أهل الإحسان ، الذين يعبدون الله على العيان ، بلى قد جاءتك آياتي ، وهم الدعاة إليَّ في كل زمان { ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها } ، فكذَّبتَ بها ، واستكبرتَ عن الخضوع لهم ، وكنت من الجاحدين لطريق التربية . ثم ذكر مآل أهل التذكيب والصدق ، فقال : { وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ تَرَى ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى ٱللَّهِ } .