Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 39, Ayat: 62-66)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله : { اللهُ خالقُ كُلّ شيءٍ } : جامد أو حي ، خير أو شر ، إيمان أو كفر ، لا بالجبر ، بل بمباشرة الكاسب في عالَم الحكمة ، وفيه إثبات القدرة والعلم ، وهما مصححان للبعث والجزاء بالخير والشر ، لمحسن أو مسيء . قال القشيري : ويدخل تحت قوله : { كل شيء } كسبُ العباد ، ولا يدخل كلامُه لأن المخاطِبَ لا يدخل تحت خطابه ولا صفاته . هـ . والمراد بالكلام : المعاني القديمة ، وأما الألفاظ والحروف فهي مخلوقة ، كما هو مقرر في محله . { وهو على كل شيءٍ وكيل } أي : حافظ يتولى التصرُّف فيه كيف يشاء . { له مقاليدُ السماواتِ والأرضِ } أي : مفاتح خزائنها ، واحدها " مِقْليد " ، أو : إقليد ، أو : لا واحد لها ، وأصلها فارسية ، والمراد : أنه مالكها وحافظها ، وهو من باب الكناية لأن حافظ الخزائن ومدبّر أمرها هو الذي يملك مقاليدها ، ومنه قولهم : فلان ألقيتْ إليه مقاليد الملك ، أي : مفاتح التصرف قد سُلّمت إليه ، وفيه مزيد دلالة على الاستقلال والاستبداد لأن الخزائن لا يدخلها ولا يتصرف فيها إلا مَن بيده مفاتحها . وعن عثمان : أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المقاليد ، فقال صلى الله عليه وسلم : " هي لا إله إلا الله ، والله أكبر ، وسبحان الله وبحمده ، أستغفر الله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، هو الأول والآخر ، والظاهر والباطن ، بيده الخير ، يُحيي ويُميت وهو على كل شيء قدير " ومعناه : أن لله هذه الكلمات ، يُوحّد بها ويُمجّد ، وهي مفاتحُ خير السماوات والأرض ، ومَن تكلّم بها أدرك ذلك في الدنيا أو في الآخرة ، ومرجعها إلى التحقق بالعبودية في الظاهر ، ومعرفة الذات في الباطن ، وهما السبب في كل خير ، وبهما يدرك العبد التصرُّف في الوجود بأسره ، فتأمله . { والذين كفروا بآيات الله } أي : كفروا به بعد كونه خالق كل شيء ، ومتصرفاً في ملكه كيف يشاء ، بيده مقاليد العالم العلوي والسفلي ، فكفروا بعد هذا بآياته التكوينية ، المنصوبة في الآفاق وفي الأنفس ، والتنزيلية ، التي من جملتها هذه الآيات الناطقة بذلك ، { أولئك هم الخاسرون } خسراناً لا خسرَ وراءه ، وقيل : هو متصل بقوله : { ويُنجي الله الذين اتقوا } ، وما بينهما اعتراض . { قُلْ أفغير الله تأمروني أعبدُ أيها الجاهلون } به ، وكانوا يقولون له : أسلِم لبعض آلهتنا نؤمن بإلهك لفرط جهالتهم . { وغير } : منصوب بـ " أعبد " ، و { تأمروني } : اعتراض ، أي : أتأمروني أعبد غير الله بعد هذا البيان التام ؟ وحذفُ نون الوقاية وإثباتها مدغمة وغير مدغمة ، كُلٌّ قُرىء به . { ولقد أُوحيَ إِليك وإِلى الذين من قبِلكَ } : من الأنبياء عليهم السلام ـ : { لئن أشركتَ لَيَحْبَطنَّ عَمَلُكَ ولَتكُونَنَّ من الخاسرين } ، كلام وراد على طريق الفرض ، لتهييج الرسل ، وإقناط الكفرة ، والإيذان بغاية بشاعة الإشراك وقُبحه ، وكونه بحيث يُنهي عنه مَن لا يكاد يمكن أن يباشره بمَن عداه أو : الخطاب له ، والمراد غيره . وإفراد الخطاب مع كون الموحَى إليهم جماعة ، باعتبار خطاب كل واحد في عصره ، واللام موطئة لقسم محذوف ، والثانية لام الجواب ، وهو سادّ مسدّ جواب الشرط ، وإطلاق الإحباط لاحتمال أن يكون من خصائصهم لأن الإشراك منهم أشد ، وأن يكون مقيداً بالموت ، كما صرح به في آية البقرة ، وهو مذهب الشافعي ، وذهب مالك إلى أن الشرك يُحبط العمل قبل الردة ، مات عليها ، أو رجع إلى الإسلام ، فينتقض وضوؤه وصومُه . وما قاله الشافعي أظهر . { بل اللهَ فاعبُدْ } ، رد لما أمروه به من عبادة آلهتهم ، كأنه قال : لا تعبد ما أمروك بعبادته بل إذا عبدت فاعبد الله ، فحذف الشرط ، وأقيم تقديم المفعول مقامه . { وكن من الشاكرين } على ما أنعم به عليك حيث جعلك رأس الموحدين وسيد المرسلين . الإشارة : الله مُظهر كل شيء حيث تجلّى بها ، وهو قائم بكل شيء . له مفاتيح غيوب السماوات والأرض ، لا يطلعَ عليها إلا مَن خضع لأوليائه ، الذين هم آيات من آياته . والذين كفروا بآيات الله ، الدالة على الله ، وهم أولياء الله ، أولئك هم الخاسرون ، فلا خسران أعظم من خيبة الوصول إذ لا يخلو المفروق عن الله من الشرك الخفي ، فإذا أُمر المريد بإظهار شيء من سره ، أو مداهنة غيره ، قال : { أفغير الله تأمروني أعبدُ أيها الجاهلون } . { ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت } بأن طالعت غيري في سرك ، أو تشوّفت أن يعلم الناس بخصوصيتك { ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد } واكتفِ به ، واقنع بعلمه ، واغتنِ بشهوده . { وكن من الشاكرين } على ما أولاك من سر خصوصيته . ثم ردَّ على أهل الشرك ، فقال : { وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } .