Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 40, Ayat: 41-46)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جلّ جلاله ، حاكياً عن المؤمن : { ويا قوم ما لي أدعوكم إِلى النجاةِ } إلى السلامة من النار ، { وتدعونني إِلى النار } بسلوك أسبابها . كرر نداءهم إيقاظاً لهم عن سِنة الغفلة ، واعتناءً بالمنادَى به ، ومبالغة في توبيخهم ، وفيه أنهم قومه ، وأنه من آل فرعون ، وجيء بالواو في النداء الثالث ، دون الثاني لأن الثاني داخل في كلام هو بيان للمجمل وتفسير له ، بخلاف الثالث . ومدار التعجُّب الذي يلوح به الاستفهام هو دعوتهم إياه إلى النار ، لا دعوته إياهم إلى النجاة ، كأنه قيل : أخبروني كيف هذا الحال أدعوكم إلى الخير وتدعونني إلى الشر ؟ { تدعونني لأكفرَ بالله } هو بدل من تدعونني الأول ، وفيه تعليل ، والدعاء يتعدّى باللام وبإلى ، كالهداية ، { وأُشركَ به } وتدعونني لأُشرك به { ما ليسَ لي به عِلٍْمٌ } أي : بربوبيته ، والمراد بنفي العلم : نفي المعلوم ، كأنه قال : وأُشرك به شيئاً ليس بإله ، وما ليس بإله كيف يصحّ أن يعلم إلهاً ؟ { وأنا أدعوكم إِلى العزيز الغفار } أي : إلى الله الجامع لصفات الألوهية ، من كمال القدرة والغلبة ، وما يتوقف عليه من العلم والإرادة إذ بالقدرة يتمكن من المجازاة بالتعذيب ، أو الإحسان بالغفران . { لا جَرَمَ } لا شك ، أو : حقاً ، وقال البصريون : " لا " : نفي رد لِما دعوه إليه ، و " جرم " : فعل ، بمعنى : حقّ ، و " أن " مع " ما " في حيزه فاعل ، أي : حق ووجب { أنّما تدعونني إِليه ليس له دعوةٌ في الدنيا ولا في الآخرة } أي : وجب عدم دعوة آلهتكم إلى عبادتها ، والظاهر : أن " جَرَمَ " من الجرم ، وأراد به هنا الكذب ، أي : لا كذب في أن ما تدعونني إليه ليس له دعوة … الخ ، فقد يضمن الفعل معنى المصدر ، وتدخل " لا " النافية للجنس عليه ، والمعنى : أن ما تدعونني إليه ليس له دعوة إلى نفسه قط ، ومن حق المعبود بالحق أن يدعوَ العباد إلى طاعته ، وما تدعونني إليه لا يدعو هو إلى عبادته ، ولا يدّعي الربوبية ، أو : معناه : ليس له استجابة دعوة في الدنيا والآخرة ، أو : دعوة مستجابة . جعلت الدعوة التي لا استجابة لها ، ولا منفعة ، كلا دعوة . { وأنَّ مردَّنا إِلى الله } أي : رجوعنا إليه بالموت ، { وأنَّ المسرفين } في الضلال والطغيان ، كالإشراك وسفك الدماء ، { هم أصحابُ النار } أي : ملازموها . { فستذكُرون ما أقولُ لكم } من النصائح عند نزول العذاب ، { وأُفوِّضُ } أُسلّم { أمري إِلى الله } ، قال لَمّا توعّدوه . { إِنَّ الله بصير بالعبادِ } فيَحْرُسُ مَن يلوذ به من المكاره . { فوقاه اللهُ سيئاتِ ما مكروا } شدائد مكرهم ، وما هَمُّوا به من إلحاق أنواع العذاب لِمَن خالفه ، وقيل : إنه خرج من عندهم هارباً إلى جبل ، فبعث قريباً من ألفٍ في طلبه ، فمنهم مَن أكلته السباع ، ومَنْ رجع منهم صَلَبه فرعونُ . وقيل : لَمَّا وصلوا إليه ليأخذوه ، وجدوه يُصلّي ، والوحوش حوله ، فرجعوا رُعباً ، فقتلهم . وقال مقاتل : لمّا قال المؤمن هذه الكلمات ، قصدوا قتله ، فوقاه الله من مكرهم ، أي : بعد تفويض أمره إلى الله ، فقيل : إنه نجا مع موسى في البحر . هـ . { وحاقَ } نزل { بآلِ فرعونَ } أي : بفرعون وقومه . وعدم التصريح به ، للاستغناء بذكرهم عن ذكره ، ضرورة أنه أولى منهم بذلك ، و { سوءُ العذاب } الغرق والقتل والنار . وقوله تعالى : { النارُ يُعرضون عليها غُدوّاً وعَشِيّاً } : جملة مستأنفة ، مسوقة لبيان سوء العذاب ، والنار : خبر عن محذوف ، كأن قائلاً قال : ما سوء العذاب ؟ فقيل : هو النار ، أو : بدل من " سوء " ، و " النار " : مبتدأ ، و " يُعرضون " : خبر ، وعَرْضهم عليها : إحراقهم ، يقال : عرض الإِمَام الأسارى على السيف : إذا قتلهم به . وذلك لأرواحهم ، كما روى ابنُ مسعود : أن أرواحهم في أجواف طير سُود ، تُعرض على النار أي : تحرق بها بكرة وعشياً ، إلى يوم القيامة ، وتخصيص الوقتين إما لأنهم يُعذّبون في غيرهما بجنسٍ آخر ، أو : يخفف عنهم ، أو : يكون غدوّاً وعشياً عبارة عن الدوام . هذا في الدنيا في عالم البرزخ ، { ويومَ تقومُ الساعةُ } يُقال للخزنة : { أَدْخِلوا آلَ فرعونَ } ، من الإدخال الرباعي ، ومَن قرأ : ادخُلوا ، ثلاثيّاً ، فعلى حذف النداء ، أي : ادخلوا يا آل فرعون { أشدَّ العذابِ } أي : عذاب جهنم ، فإنه أشدّ مما كانوا فيه . أو : أشد عذاب النار فإنّ عذابها ألوان ، بعضه أشد من بعض ، وهذه الآية دليل على عذاب القبر في البرزخ ، وهو ثابت في الأحاديث الصحاح . الإشارة : النجاة التي دعاهم إليها : هي الزهد في الدنيا ، وفي التمتُّع بها مع الاشتغال بالله ، والنار التي دعوه إليها : هي الاشتغال بمتعة الدنيا مع الغفلة عن الله . لا جَرَمَ أنَّ ما دعوه إليه لا منفعة له في الدارين ، بل ضرره أقرب من نفعه . وقوله تعالى : { وأنَّ مَردّنا إلى الله } قال الورتجبي : مرد المحبين إلى مشاهدته ، ومرد العارفين إلى الوصلة ، ومرد الكل إلى قضيات الأزلية . قال حمدون القصّار : لا أعلم في القرآن أرجى من قوله : { وأنَّ مَردَّنا إِلى الله } ، فقد حكي عن بعض السلف أنه قال : الكريمُ إذا قدر عفا ، وإنما يكون مرد العبد إلى ربه إذا أتاه على أمد الإفلاس والفقر ، لا أن يرى لنفسه مقاماً في إحدى الدارين ، وهو أن يكون في الدنيا خاشعاً لمَن يذله ، ولا يلتفت إليه ، هارباً ممن يكرمه ويبره ، ويكون في الآخرة طالباً لفضل الله ، مشفقاً من حسناته أكثر من إشفاق الكفار من كفرهم . هـ . قلت : هذا مقام العباد والزهّاد ، وأما العارفون فلا يرون إلا الله ، فيلقون الله بالله ، غائبون عن إحسانهم وإساءتهم . وقوله تعالى : { فستذكرون ما أقولُ لكم } هكذا يقول الواعظ إن لم ينفع وعظه ، ويُفوض أمره وأمرهم إلى الله فإنَّ الله بصيرٌ بهم . وقال بعضهم : وأُفوضُ أمري في الدنيا والآخرة إلى الله ، فهو بصير بعجزي وضعفي عن رد القضاء والقدر ، والتفويض : ألا يرى لنفسه ، ولا للخلق جميعاً ، قدرةً على النفع والضر ، فيرى الله بإيجاد الموجود في جميع الأنفاس ، بنعت المشاهدة والحال ، لا بنعت العلم والعقل . وقال بعضهم : التفويض : قبل نزول القضاء ، والتسليم : بعد نزول القضاء . وقال ذو النون حين سُئل عنه : متى يكون العبد مفوضاً قال : إذا أيس من فعله ونفسه ، والتجأ إلى الله في جميع أحواله ، ولم تكن له علاقة سوى ربه . هـ . أي : لم يكن له تعلُّق إلا بالله . فالمقامات ثلاث : التفويض قبل النزول ، والرضا بعده بالمجاهدة ، والتسليم بلا مجاهدة . وقوله تعالى : { فوقاه الله سيئاتِ ما مكروا } هذه نتيجة التفويض ، فكُلّ من فوّض أمره إلى الله فيما ينزل به ، وقاه الله جميع المكاره ، وكُلَّ ما يخشى إن قطع عن قلبه التعلُّق بغير الله ، كما هو حقيقة التفويض . قال القشيري : أشدُّ العذاب على الكفار : يأسُهم عن الخروج ، وأما العصاة من المؤمنين فأشدُّ عذابهم : إذا علموا أن هذا يومُ لقاءِ المؤمنين . هـ . أي : وهم قد حُرموا ذلك . ثم ذكر احتجاج الكفار في النار ، فقال : { وَإِذْ يَتَحَآجُّونَ فِي ٱلنَّـارِ فَيَقُولُ ٱلضُّعَفَاءُ } .