Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 40, Ayat: 61-65)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله : { الله الذي جعلَ لكم الليلَ لتسكنوا فيه } بأن خلقه مظلماً بارداً ، تقلّ فيه الحركات فتستريح فيه الجوارح ، { و } جعل { النهارَ مبصراً } أي : مبصَراً فيه . فأسند الإبصار إلى النهار ، مجازاً ، والأصل في الحقيقة لأهل النهار . وقرن الليل بالمفعول له ، والنهار بالحال ، ولم يكونا حالين أو مفعولاً لهما رعايةً لحق المقابلة ، لأنهما متقابلان معنىً لأن الليل مقابل النهار ، فلما تقابلا معنىً تقابلا لفظاً ، مع أن كل واحد منهما يؤدي مؤدى الآخر ، ولأنه لو قيل : لتُبصروا فيه فاتت الفصاحة التي في الإسناد مجازي ، ولو قيل : " ساكناً " لم تتميز الحقيقة من المجاز ، إذ الليل يوصف بالسكون على الحقيقة ، ألا ترى إلى قولهم : ليل ساج ، أي : ساكن لا ريحَ فيه . { إِنَّ الله لذو فضلٍ } عظيم { على الناس } ، حيث تفضَّل عليهم بهذه النعم الجسيمة ، وإنما لم يقل : المتفضل لأن المراد تكثير الفضل ، وأنه فضله لا يوازيه فضل ، فالتنكير للتعظيم . { ولكنَّ أكثرَ الناس لا يشكرون } لجهلهم بالمنعم ، وإغفالهم مواضع النعم . وتكرير الناس ، ولم يقل : أكثرهم لتخصيص الكفران بهم ، وأنهم هم الذين من شأنهم الكفران ، كقوله : { إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ } [ الحج : 66 ] . { ذلكمُ الله } أي : ذلكم المنفرد بالأفعال المقتضية للألوهية ، من خلق الليل والنهار هو الله { ربكُم } لا ربّاً غيره ، { خالقُ كل شيء لا إِله إِلا هو } أخبار مترادفة ، أي : الجامع لهذه الأوصاف من الإلهية والربوبية ، وإيجاد الأشياء ، والوحدانية ، { فأنَّى تُؤفكون } أي : فكيف ، ومِن أيّ وجه تُصرفون عن عبادته إلى عبادة الأوثان ؟ ! { كذلك يُؤفك الذين كانوا بآياتِ الله يجحدون } أي : مثل ذلك الإفك العجيب ، الذي لا وجه له ، ولا مصحح له أصلاً ، يُؤفك كلُّ مَن جحد بآياته تعالى من غير تروٍّ ولا تأمُّل . ثم ذكر فضله المتعلق بالمكان ، بعد بيان فضله المتعلق بالزمان ، فقال : { الله الذي جعل لكم الأرضَ قراراً } مستقراً تستقرون عليها بأقدامكم ومساكنكم ، { والسماء بناءً } سقفاً فوقكم ، كالدنيا بيت سقفه السماء ، مزيّناً بالمصابيح ، وبساطه الأرض ، مشتملة على ما يحتاج إليه أهل البيت . { وصوَّركم فأحسنَ صُورَكم } ، هذا بيان لفضله المتعلق بالأجسام ، أي : صوّركم أحسن تصوير ، حيث جعلكم مُنتصِبَ القامة ، باديَ البشرة ، متناسب الأعضاء والتخطيطات ، متهيئاً لمناولة الصنائع واكتساب الكمالات . قيل : لمْ يخلق الله حيواناً أحسن صورة من الإنسان . { ورزقكم من الطيبات } أي : اللذائذ ، { ذلكم الله ربكم } أي : ذلكم المنعوت بتلك النعوت الجليلة ، هو المستحق للربوبية ، { فتبارك الله } أي : تعالى بذاته وصفاته { ربُّ العالمين } أي : مالكهم ومربيهم ، والكل تحت قدرته مفتقر إليه في إيجاده وإمداده إذ لو انقطع إمداده لانْهَدَ الوجود . { هو الحيُّ } المنفرد بالحياة الذاتية الحقيقية ، { لا إِله إِلا هو } إذْ لا موجود يدانيه في ذاته وصفاته وأفعاله ، { فادعوه } فاعبدوه { مخلِصين له الدينَ } أي : الطاعة من الشرك والرياء ، وقولوا : { الحمد لله ربِّ العالمين } . عن ابن عباس رضي الله عنه : مَن قال " لا إله إلا الله " فليقل على إثرها : الحمد لله رب العالمين . الإشارة : الله هو الذي جعل ليل القبض لتسْكنوا فيه عند الله ، ونهار البسط لتُبصروا نعم الله ، فتشكروا لتبتغوا زيادة فضله ، وجعل أرض النفوس قراراً لقيام وظائف العبودية ، وسماء الأرواح مرقى لشهود عظمة الربوبية . قال القشيري : سكونُ الناس بالليل أي : الحسي على أقسام : فأهل الغفلة يسكنون مع غفلتهم ، وأهل المحبة يسكنون بحكم وصلتهم ، فشتّان بين سكون غفلةٍ ، وسكونِ وصلة ، وقومٌ يسكنون إلى أمثالهم وأشكالهم ، وقومٌ إلى حلاوة أعمالهم ، وبسطهم ، واستقبالهم ، وقومٌ يعدِمون القرار في ليلهم ونهارهم أي : لا يسكنون إلى شيء أولئك أصحابُ الاشتياق ، أبداً في الإحراق هـ . وقوله تعالى : { وصَوَّرَكُم } أي : صَوَّر أشباحكم ، فأحسن صورتها ، حيث بهَّجها بأنوار معرفته . قال الورتجبي : فأحْسن صُوَرَكم بأن ألبستكم أنوار جلالي وجمالي ، واتخاذِكم بنفسي ، ونفخت من روحي فيكم ، الذي أحسن الهياكل مِن حسنه ، ومِن عكْس جماله ، فإنه مرآة نوري الجلي للأشباح . هـ . قال القشيري : خَلَقَ العرشَ والكرسي والسمواتِ والأرض ، وجميع المخلوقات ، ولم يقل في شيء منها : فأحسن صورها ، بل قاله لمّا خلق هذا الإنسان ، وليس الحَسَنَ ما يستحسنه الناسُ ، ولكن الحسنُ ما يستحسنه الحبيبُ ، وأنشدوا : @ مَا حَطَّكَ الْوَاشُونَ عَن رُتبةٍ عنْدِي ، ولاَ ضَرَّكَ مُغْتَابُ كأَنَّهم أَثْنَوْا ولَمْ يَعْلَمُوا عَلَيْكَ عِنْدِيَ بِالَّذِي عَابوا @@ لم يَقُلْ للشمس في عُلاها ، ولا للأقمار في ضيائها : فأَحسنَ صُوَرَكم ولما انتهى إلينا قال : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } [ التين : 4 ] . ثم قال : وكما أحسن صُوركم محى من ديوانكم الزلاّت ، وأثبت الحسنات ، قال الله تعالى : { يَمْحُواْ اللهُ مَا يَشَآءُ وُيُثْبِتُ } [ الرعد : 39 ] هـ . قوله تعالى : { ورزقكم من الطيبات } لذيذ المشاهدة ، وأنس الوصلة . وقوله تعالى : { هو الحي } الحياة عند المتكلمين لا تتعلق بشيء ، وعند الصوفية تتعلق بالأشياء إذ لا قيام لها إلا بأسرار معاني ذاته ، ومَن تحققت حياته من الأولياء بحياة الله ، بحيث كان له نور يمشي به في الناس ، كان كل مَن لقيه حييت روحه بمعرفة الله ، ولذلك يضم الشيخُ المريدَ إليه ، إن رآه لم ينهض حاله ، ليسري حاله فيه ، يأخذون ذلك من ضم جبريل للنبي عليهما السلام . وبالله التوفيق . ولَمَّا كان صلى الله عليه وسلم بين أظهر المشركين ، نهى عن أن يتصف بصفاتهم ، فقال : { قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ } .